المنهج المقترح في دراسة الفقه وأصوله
هذه المذكرة مسودة كتبها جامعها ليتعرف من خلالها طلاب العلم على المنهج المقترح في دراسة الفقه وأصوله، ولم يكن قصده منها أن تكون تأليفا، ومع ذلك أحب أن ينشرها بين الناس على حالها لمن أراد أن يستفيد منها.
كتبها الدكتور / عمر إيمان أبو بكر
1443هـ 2022م
الفقه وأصوله
الفقه هو في اللغة: الفهم، ومنه قول النبي r: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين). وفي اصطلاح الفقهاء: العلم بالأحكام العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، ويُتوصَّل بالفقه إلى معرفة أحكام الشرع في معاملاته من حلال وحرام، وفي عباداته من الصحيح، والباطل منها، ولهذا فالفقه يسير مع النصوص الشرعية من كتاب وسنة جنباً إلى جنب.
والفقه الإسلامي مادة ممتعة وثيقة الصلة بكتاب الله، وسنة رسوله r، ولا يُمَلُّ من دراسته، فمن أخذ الفقه من مصادره أخذ الدين كله لأن الفقه معناه الحقيقي التعمق في فهم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة واستخراج الأحكام الشرعية نصاً أواستنباطاً ولكن الفقه الإسلامي انحرف عن ذلك المسار العظيم في عصور الانحطاط، فانحصر في مختصرات جامدة، ومتون مجردة عن الأدلة الشرعية مع تقوقع الشعوب على أقوال أئمة معينين وترك أقوال بقية الأئمة مما عرف لاحقا بالتقليد الأعمى بالأخذ بقول إمام واحد والتقيد به سواء أخطأ أم أصاب.
والفقه الإسلامي يختلف عن التفسير، والحديث من حيث أن مصادره ليس موحدة، بل هو مبني على مذاهب أربعة، أو خمسة، فلا يمكن للطالب أن يدرسها كلها في وقت واحد لأن مناهجها مختلفة، وطرقها متباينة، فلا بد له من أن يتخصص في إحداها لمعرفة أصولها وفروعها، وهذا لا يعني التقليد الأعمى المنهي عنه لأن معرفة الشيء لا يعني التقيد به، فالتفقه على ضوء مذهب من تلك المذاهب ضرورة تمليها الحالة القائمة في البلاد الإسلامية.
فإذا تعرَّف الطالب على مذهب معين منها سهُل عليه أن يقارن به المذاهبَ الأخرى اجتماعاً وافتراقاً، فينتقل إلى ما يعرف بالفقه المقارن، ونحن هنا نتحدث عن دراسة المذهب الفقهي المعمول به لدينا في الصومال، وهو مذهب الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ .
وقبل الحديث عن المنهج المقترح في تدريس الفقه الشافعي نشير إلى شيء من فضائل الإمام الشافعي مُقتَبِساً من كتابي الذي خصصته لدراسة منهجية الإمام الشافعي، فمما قلت في ذلك الكتاب.
مكانة الإمام الشافعي في العلوم الشرعية من فقه وحديث
إن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ تلقَّى العلوم الشرعية من الحديث والفقه عن أهل المدرستين معاً ـ مدرسة أهل الحديث، ومدرسة أهل الرأي، ـ فبعد مراجعةٍ لطريقتيهما، ومقارنة لما بينهما من الاختلاف أصَّل أصول مذهبه، وقعَّد قواعده، ثم خرج على الناس بفقه مُؤصَّل على الحديث لا يحيد عنه إذا صح عنده تقديماً منه لحديث رسول الله r على كل ما عداه مما ليس بوحي.
إن الإمام الشافعي من القلائل الذين جمعوا بين الحديث والفقه، وثبتت إمامتُه فيهما. قال أبو داود صاحب السنن: «ما أعلم للشافعي حديثاً خطأً»([1]). وقال أبو زرعة الرازي أحد أئمة الجرح والتعديل في عصره: «ما عند الشافعي حديثٌ فيه غلطٌ»([2]). وقال الذهبي معلقا على هذين القولين: «وهذا مِن أدلِّ شيءٍ على أنه ثقة حجةٌ حافظٌ، وناهيك بقول مثل هذين»([3]). وقال أيضاً: «وكان حافظا للحديث بصيراً بعلله، لا يقبل منه إلا ما ثبت عنه، ولو طال عمرُه لازداد منه»([4]).
وما زال الشافعي يعلو كعبه في فقه الشريعة الإسلامية حتى عُدَّ من مجددي الدين في المائة الثانية، قال الإمام أحمد من طرق عنه: «إن الله يقيِّض للناس في رأس كلِّ مائةٍ مَن يُعلِّمهم السنن، وينفي عن رسول الله r الكذب، قال: فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين: الشافعي»([5]).
وهذه الشهادة من الإمام أحمد للشافعي دليل على أنه وصل إلى ما وصل إليه من الإمامة في الدين بتعليمه الناسَ سننَ رسول الله r، لأن هذا هو معنى التجديد المذكور في الحديث. وهذه درجة لم يصل إليها أحدٌ من أقرانه.
ولهذا قال أبوزرعة الرازي: «ما أعلم أحداً أعظم مِنَّةً على أهل الإسلام من الشافعي »([6]).
الشافعي أتبع للسنة من كل أئمة الفقه
قال إسحاق بن راهوية: «ما تكلم أحد بالرأي، وذكر الثوري والأوزاعي، ومالكاً، وأباحنيفة إلا، والشافعي أكثر اتباعاً، وأقل خطأً منه»([7]).
وقال محمد بن مسلم بن وارة الرازي سألت أحمد بن حنبل قلت: ما ترى لي من الكتب أن أنظر فيه ليفتح لي الآثار، رأي مالك، أو الثوري، أوالأوزاعي؟ فقال لي قولا أجلهم أن أذكره لك، وقال: « عليك بالشافعي، فإنه أكثرهم صواباً، أوأتبعهم للآثار ). قال ابن أبي حاتم: ( الشك مني )([8]).) انتهى.
كتاب الأم للإمام الشافعي مرجعية الشافعية
كتاب الأم للإمام الشافعي هو كتاب جُمع فيه معظم مؤلفات الإمام الشافعي، وقد بلغتْ مؤلفاتُه في الفقه والحديث كما قال ابن حجر العسقلاني مائة ونيفاً وأربعين كتاباً. كان معروفاً في زمان الشافعي بالمبسوط، فأضاف إليها ربيع بن سليمان المرادي بعض كتبه الأخرى إليه، فسمي لأجل ذلك بالأم ، وقيل: جمعها فيه تلميذه: يوسف بن يحيى البويطي المتوفى سنة (231) وبسبب ذلك سمي الكتاب بالأم.
إلقاء نظرة على طريقة التأليف وما فيه من التكرار عند علماء المذهب
ألقيت نظرة على تسلسل المختصرات الفقهية في المذهب الشافعي، فلما وقفتُ على كثير منها تأسفت على كثرة الجهود التي أُهدِرت في الأعمال المكررة، والسببُ في ذلك يعود إلى أنه كان يشغل بال الفقهاء أن يكون لأحدهم مؤلَّف في المذهب بصرف النظر عن القيمة العلمية التي يضيفها مُؤلَّفه، فيشرع في تأليف مختصر، قد كُفي عنه بغيره، فنتج عن ذلك الفعلِ هذا الكمُّ الهائلُ من المختصرات بأسماء مختلفة مع اتحاد محتواها، فكان أحدهم يختصر كتاباً من كتب مَن قبله، ثم يأتي آخر، فيشرح ذلك المختصر بإعادة ما حذفه المُختَصِرُ من الكتاب الأول مع اختلاف الألفاظ، ثم يأتي آخر، فيختصر ذلك الشرح في مختصر آخر، فهذا يختصر، وذاك يشرحه، ويختصر الشرح مختصر آخر، فتدور المختصرات في حلقات مفرغة.
ذِكرُ بعض المختصرات المتسلسلة في المذهب
أستَعرِضُ معك في هذه السطور بعضاً من تلك المختصرات في مذهب الإمام الشافعي، فأصل الكتب في مذهب الشافعية: الأم للإمام الشافعي كما تقدم، ومنه تفرَّعت الكتب.
1ـ مختصر المزني بتأليف أبي إبراهيم: إسماعيل بن يحيى المزني ـ رحمه الله
فهذا المختصر أول مختصر وقع في مذهب الإمام الشافعي، فانكبَّ عليه علماء المذهب شرحاً، الواحد تلو الآخر([9]).
2ـ نهاية المطلب في دراية المذهب لعبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني إمام الحرمين المتوفى سنة (478) وهو شرح ([10]) لمختصر المزني. ثم إن النهاية اختصرها الغزالي في البسيط، ثم إن الغزالي اختصر البسيط في الوسيط، ثم اختصر هو أيضاً الوسيطَ في الوجيز. ثم الوجيز اختصره الرافعي في قول بعضهم في المحرر، ثم المحرر، اختصره النووي في منهاج الطالبين، ثم اختصرهما (أي المحرر ومنهاج الطالبين) ابن النقيب في عمدة السالك، ثم تشعبت المختصرات في كل الأودية، وتنوعت في كل المسالك إلى وصلت إلى سفينتى النجاة والصلاة.
وعلى كل واحدٍ من تلك المختصرات من الشروح ما يستعصي على العادِّ أن يعدها، لهذا وذاك كادت أن تضيع حقيقة المذهب بين هذا الكم الهائل من الشروح، والمختصرات حتى قال النووي: «واعلم أن كتب المذهب فيها اختلاف شديد بين الأصحاب بحيث لا يحصل للمطالع وثوقٌ بكون ما قاله مُصنِّفٌ منهم هو المذهب حتى يطالع معظم كتب المذهب المشهورة»([11]).
وخذ مثالا آخر على ذلك بكتاب الوجيز
كتاب الوجيز: لحجة الإسلام الغزالي، هو في ألأصل مختصر عن الوسيط، هو مختصر عن البسيط، وكلها للغزالي كما سيأتي، وكلٌ من هذه المختصرات عليه من الشروح ما يفوق الوصف.
فكتاب الوجيز، عليه من الشروح أكثر من سبعين شرحاً، قال السلفاني: (وقفت للوجيز على سبعين شرحاً) فهذا كتاب واحد، فما بالك بغيرها من المتون المختصرة.
ومن ضمن الشروح لكتاب الوجيز: شرح الرافعي المسمى بفتح العزيز المشهور بالشرح الكبير، اختصره النووي في روضة الطالبين، ثم اختصر الروضة ابن المقرئ في روض الطالب، ثم روض الطالب شرحها زكريا الأنصاري بأسمى المطالب، ثم شرحها بعده تلميذه فيما قيل: ابن حجر الهيتمي بكتاب أوسع منه باثني عشر مجلداً، فعاد كتاب الرافعي ـ وهو شرح الوجيز ـ بعد تلك الاختصارات والشروح كحالته الأولى عند الرافعي.
في هذا الكم الهائل قد يعتقد الطالب في هذه العصور أنه إذا لم يُعْنَ بها كلها، فقد فاته كثير من علوم المذهب ظناً منه أن في كل مختصر من العلوم ما ليس في الآخر، فلو حاول الطالب أن يستقصي المختصرات ضاع وقته فيها، ثم لم يخرج منها بنتيجة تُذكر لأنها كثيرة متداخلة، والعلوم الأخرى المطلوبة كثيرة، والعمر قصير، فلا ينبغي تضييعه في شيء واحد مكرر.
وكان يكفي عن ذلك كله لو أنه قصد إلى أهم المختصرات بالدراسة والمراجعة حتى يُتقنه، ثم اطلع على بقية المختصرات، فإن وَجد فيها بعض الزيادات والفوائد قيَّدها، ثم وضعها في المكان المناسب من مختصره الذي اعتمد عليه لكان بذلك وفَّر لنفسه وقتاً وجهداً غير قليلين.
المنهج المقترح في تدريس مذهب الإمام الشافعي
فقه الشافعية يبدأ من سفينة النجاة، وينتهي بالأم للإمام الشافعي، وبينهما من الكتب ما لا يحصيها إلا الله، لهذا فلا بد من رسمِ طريقة تضمن للطالب الاستفادة من هذا الكم الهائل على أفضل وجهٍ لئلا يقع في متاهات التكرار الذي وصفناه سابقاً، لهذا نريد أن نشير من تلك الكتب إلى ما لا بد منه، فإذا عُنِي الطالب بذلك، فإن فضل له من الوقت فليصرفه في غيرها من الكتب الأخرى مما يراه مناسبا لحاله، والترتيب الذي نراه مناسبا على النحو التالي:
1ـ متن الغاية والتقريب لأبي شجاع مع شرحه لمحمد بن قاسم الغزي الشافعي المتوفى سنة (918).
فهذا الكتاب صالح للمبتدئ في هذه المرحلة لأنه مرتب بطريقة سهلة، وهو كتاب مخدوم تحقيقاً وشرحاً، ولأن الطالب على حسب مقترحنا قد درس قبل ذلك علوم الآلة من نحو، وصرف، وبلاغة، وعليه فلا حاجة له إلى سفينتي النجاة والصلاة.
قال أبو شجاع أحمد بن الحسين في مقدمة الكتاب: «سألني بعض الأصدقاء أن أعمل مختصَراً في الفقه على مذهب الإمام الشافعي في غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز ليقرب على المتعلم درسه، ويَسهُل على المبدئ حفظُه، وأن أُكثِر فيه من التقسيمات، وحصرِ الخصال، فأجبتُه إلى ذلك طالباً للثواب راغباً إلى الله تعالى في التوفيق للصواب إنه على ما يشاء قدير، وبعباده لطيف خبير.
2ـ عمدة السالك وعدة الناسك: لمؤلفه شهاب الدين أحمد بن النقيب المصري المتوفى سنة (769).
قال المؤلف في مقدمة الكتاب: « هذا مختصر على مذهب الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه ورضوانه، اقتصرتُ فيه على الصحيح من المذهب عند الرافعي والنووي، أو أحدهما، وقد أذكر فيه خلافاً في بعض الصور، وذلك إذا اختلف تصحيحهما، مُقدِّماً لتصحيح النووي جازماً به، فيكون مقابله تصحيح الرافعي ».
3 ـ منهاج الطالبين وعمدة المفتين لمؤلفه يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة (676).
فهذا الكتاب غني عن التعريف لشهرته بين أوساط طلبة الفقه الشافعي في الصومال، وعليه في الآونة الأخيرة الاعتماد في الفقه الشافعي، فلا تخلو عن تدريسه حلقةٌ من حلقات العلم في مساجدنا. وقد نفع الله به الطلبة بما فيه من نفائس الفقه ودقائقه.
قال النووي في مقدمة المنهاج: «وأتقنُ محررٍ المحررُ للرافعي، وهو كثير الفوائد، عمدة في تحقيق المذهب، معتمد للمفتي وغيره، وقد التزم مصنفُه أن ينص على ما صححه معظم الأصحاب، ووفَّى بما التزمه، وهو من أهم أو أهم المطلوبات لكن في حجمه كِبَرٌ يعجز عن حقه أكثرُ أهل العصر، فرأيت اختصاره في نحو نصف حجمه ليسهل حفظُه مع ما أضمه إليه إن شاء الله تعالى من النفائس المستجادات منها: التنبيه على قيود في بعض المسائل، هي من الأصل محذوفات، ومنها مواضع يسيرة ذكرها المحرر على خلاف المختار في المذهب كما ستراها ـ إن شاء الله ـ واضحاتٍ، ومنها إبدال ما كان من ألفاظه غريباً، أو موهماً خلاف الصواب بأوضح، وأخصر منه بعباراتٍ جلياتٍ، ومنها بيان القولين والوجهين، والطريقين، والنص، ومراتب الخلاف في جميع الحالات. انتهى.
الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
4ـ حفظ نظم متن الزُّبد لابن رسلان: وهو أحمد بن الحسين بن علي بن أرسلان الرملي المتوفى سنة (844 هـ).
لا بد للطالب المتخصص أن يستعين على تحصيل الفن الذي تخصص فيه بحفظ متن مهم، ويحسن أن يكون نظماً لأنه أسهل من النثر لأن العلم كما قالوا: هو ما في الرأس لا ما في الكتب، وكان الحفظ مُتَّبعاً لدى الطلبة قديماً ألا ترى أن الباعث للنووي على اختصار المحرر للرافعي هو أن يسهل حفظه، وقد مر قوله في ذلك حيث قال: (فرأيت اختصاره في نحو نصف حجمه ليسهل حفظُه).
ويستعين الطالب على فهم نظم ابن رسلان بشرح غاية البيان شرح زُبد ابن رسلان لمحمد بن أحمد الرملي الأنصاري المتوفى (1004هـ).
5 ـ مختصر المزني ـ ومؤلفه أبو إبراهيم: إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المتوفى سنة (264).
قال المزني في مقدمة الكتاب: « اختصرت هذا الكتاب مِن علم محمد بن إدريس الشافعي ـ رحمه الله ـ ومِن معنى قوله لأُقرِّبه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده، وتقليد غيره ليَنظر فيه لدينه، ويَحتاط فيه لنفسه، وبالله التوفيق».
وقد صدق المزني فيما قاله عنه، فالإمام الشافعي من أشد الناس إنكاراًً على التقليد، ومن كلامه في هذا الموضوع قوله: «وغير ُجائز له أن يقلِّد أحداً من أهل دهره، وإن كان أبين فضلاً في العقل، والعلم منه، ولا يقضي أبداً إلا بما يَعرف. وإذا اجتمع له علماء من أهل زمانه، أو افترقوا، فسواء ذلك كله لا يقبله إلا تقليداً لغيرهم من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس يدلونه عليه حتى يعقله كما عقلوه »([12]).
مكانة لمزني عند أصحاب المذهب
المزني من نقَلةِ علم الشافعي إلى من بعده، وهو عالم فذ، قلَّ أن يوجد له نظير، وقد بلغ في العلم درجة المجتهد المطلق، فلم يكن متقيدا بالمذهب الشافعي كما هو الشأن فيمن بعده من المقلدة.
قال النووي: «صنَّف المزني كتاباً مفرداً على مذهبه، وإذا تفرد المزني برأي، فهو صاحب مذهب، وإذا خَرَّج للشافعى قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو ملتحق بالمذهب لا محالة »([13]).
وقد اهتم بمختصر المزني علماء المذهب مِن بعده، وعكفوا عليه تدريساً وتفريعاً، وشرحاً.
وممن شرح مختصرَه: أبو الطيب الطبري، وأبو الفتوح الشافعي، وأبو إسحاق المروزي، وأبو حامد المروزي، وأبو سراقة الشافعي وأبو عبد الله المسعودي، وأبو علي الطبري وأبو بكر الشاشي، وأبو علي السنجي، ويحيى بن محمد الحدادي المناوي، وأبو حسن الماوردي ( الحاوي الكبير) وابن عدلان الكناني والجويني في نهاية المطلب وغيرهم.
5 ـ الأم للإمام الشافعي
كتاب الأم وضعه الشافعي في الفقه وأصوله والحديث وأصوله، وهو كتاب عظيم القدر كثير الفوائد، اسمه على مسماه، فهو بحق أمٌّ لكل كتب الفقه لم يسبقه إلى مثله أحدٌ، ولم يلحقه فيه مَن بعده، وكان معروفاً في زمان الشافعي بالمبسوط كما أشرنا إليه سابقاً، وإنما سُمي أُمّاً، لأن الربيع بن سليمان المرادي أضاف إليه مجموعة أخرى من كتب الشافعي، فوضعها في هذا الكتاب، فسماه الأم، وبذلك اشتهر به الكتاب، وقيل جمع تلك الكتب في هذا الكتاب يحيى البويطي.
إن كتاب الشافعي (الأم) موسوعة فقهية تناول فيه مؤلفه الفقه الشرعي بأدلته، فأورد في كلِّ مسألةٍ من مسائله ما وجد فيها من أحاديث، وآثار، فلما كان هدفه من إيرادها الاحتجاج اضطرَّ أن يُبَيِّن درجتها ضعفاً وصحةً، فصحح أحاديث، وضعَّف أخرى، وجرَّح رواةً، ووثَّق آخرين، وعلَّل المتون ونقدها، ولهذا عُدَّ الإمام الشافعي من أئمة الجرح والتعديل.
سبب عزوف الشافعية عن تدريس هذا الكتاب
هذا الكتاب مع وجوده وشهرته بين طلبة العلم تجده مهجوراً منذ العصور الوسطى إلى يومنا، وكان حق هذا الكتاب أن يكون مقدَّماً على كل الكتب لأنه كتاب الإمام كتبه بنفسه، فكان واجب كل شافعي أن يبذل كل الأسباب للوصول إليه في نهاية المطالب مهما كلَّفه ذلك من الوقت والجهد ليأخذ المذهب من مصدره الأصلي مباشرة دون وساطات بينه وبين إمامه لأنه كتاب الإمام الذي يقلده، ويتقيد بقوله، والعزوف عنه يعود إلى أحد سببين:
الأول منهما: الصعوبة التي في الكتاب فهو موسوعة علمية يتناول الإمام فيه المسائل العلمية بالتأصيل، ثم التفريع منها، وإيراد ما يتحصل عليه من الأدلة ثم مناقشتها واحدة تلو الأخرى إلى أن يصل منها إلى نتيجة، فيتطلب ذلك معرفة متقدمة قد لا تتوفر لكثير من طلبة العلم في العصور المتأخرة.
أقول في الجواب عنه: إن هذا الكلام مع وجهاته نظرياً لكنه غير واقعي لدليل أن الشافعية في كل العصور يدرسون كتباً، هي أصعب من الأم للشافعي بمراحل، ومع ذلك لا يملون من تدريسها ودراستها كالإرشاد لابن المقرئ، فمما لاشك فيه أن الأم للإمام الشافعي أسهل بكثير من كتاب الإرشاد، ومن معظم مختصرات المتون التي بلغ بها الأمر في الركاكة إلى حد التلغيز.
الثاني منهما: وهو الصواب عندي: إن الإمام الشافعي في كتابه (الأم) لا يقبل فيه تقليده، ولا تقليد غيره من الأئمة، فهو عدوٌّ لدودٌ للمقلدة، فإذن كتاب الأم يسير في الاتجاه المعاكس للتقليد وأهله، وهؤلاء المقلدة من أتباعه يريدون أن يُلزموا الناس بتقليده، وعدم الخروج عن مذهبه بأيِّ حال من الأحوال، ولهذا عدلوا عنه إلى غيره من المتون الأخرى في المذهب التي تؤيد التقليد بل توجبه على الناس بحجة أن الاجتهاد انقطع منذ زمن بعيد، وليس أمام الناس في هذا العصور إلا التقليد.
ملحوظة: يظن بعض الطلبة حين نحث على أن يكون كتاب الإمام الشافعي ضمن الكتب المدروسة في مذهب الإمام الشافعي أننا ندرسه على الطريقة المتبعة في تدريس مختصرات الفقه ( اللقبة) ليس المراد هكذا، بل إننا نريد قراءة الكتاب على الشيخ، ثم الوقوف عند الإشكالات فقط، لأن الطالب في هذه المرحلة الأخيرة، وقد درس العلوم بفنونها قبل ذلك ليس بحاجة إلى ترجمة كل حرف في الكتاب، وإنما يَكتفي بقراءة الكتاب، وقد يقرأ صفحة، أو صفحتين دون الوقوف عند كلمة منها لوضوحها.
عِلمُ أصول الفقه
علم أصول الفقه علم جليل القدر، عظيم الفائدة، رفيع الدرجة، وُضع لمعرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، ومصدره: الأصول اللغوية، والنصوص الشرعية، والدلائل العقلية، وهو بهذا مجموعة من القواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية، فعلم الأصول الأسس التي ينبني عليها علم الفقه.
الإمام الشافعي هو من أول من وضع علم أصول الفقه، وأرسى قواعده، وأوضح معالمه، وهذا شرف للفقهاء عموماً، وللشافعية خصوصاً حيث كان لهم الشرف في ابتكار وضع قواعد هذا العلم العظيم، فجزى الله عن الإمام الشافعي فما أعظمه من إمام.
موقع علم أصول الفقه
علم أصول الفقه كان حقُّه أن يكون عِلماً موحَّداً مُستقِلاً بحيث لايختص بمذهب بعينه لأنه وُضع لمعرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الشرعية لكن بكلِّ أسفٍ صُرف عن وجهته إلى أن جعلوه مذاهب كالفقه في المذاهب الأربعة، فألف كلُّ أصحاب مذهب أصولاً خاصاً بهم سمَّوها بأصولٍ الفقه راعوا فيها فروع مذاهبهم، فآل أمره إلى أن صار تابعاً لتلك المذاهب الفقهية بدلاً من أن تكون متبوعة له.
ولو بقي أصول الفقه على ما كان عليه في بدايته لما كان للمقلدين فيه مجال لأن المُقلِّد لا تعنيه الأدلة العامة، فلا يحتاج إلى أصول الفقه للاستنباط بها من الأدلة الإجمالية، وإنما يهمه قول إمامه فقط.
…
المنهج المقترح في تدريس أصول الفقه
علم أصول الفقه حديث عهد بالصومال، ولم يكن من الفنون المعروفة فيها، وقد دخل إلى البلاد قريباً عن طريق الطلاب الذين تخرجوا في الجامعات الإسلامية في العالم العربي، والآن قد قطعوا فيه شوطاً كبيراً في تدريسه، فترتيب كتب الأصول على هذا النحو في نظري.
1ـ الورقات في أصول الفقه لإمام الحرمين لعبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني المتوفى سنة (478).
وهذا الكتاب بالنسبة لأصول الفقه كالآجرومية بالنسبة لعلم النحو، فهو المدخل الأول إلى علم الأصول، وطريقة المؤلف فيه سهلة مناسبة للمبتدئ لهذا الفن، وعليه شروح كثيرة، أكثرها للمتأخرين.
2 ـ اللمع في أصول الفقه المؤلف: أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي
وهذا الكتاب هو الثاني بعد الورقات على الطريقة المتبعة عند كثير من طلبة العلم في الصومال، ولكني أفضل عليه كتاب الوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم الزيدان المتوفى في صنعاء ( 2014م ) فهو أحسن منه ترتيباً، وأسع منه مادة، وأسلس منه أسلوباً.
4ـ المستصفى في أصول الفقه لحجة الإسلام محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة (505).
المستصفى في الأصول عمدة في هذا الباب، ومنه تتفرع معظم الكتب المؤلفة في الأصول بعده، حتى قيل: إن روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة هو اختصار لكتاب المستصفى مع أن المصنف ابن قدامة لم يشر إلى ذلك.
وقد وضع الغزالي في أول المستصفى مقدمة في المنطق اختلف الناس حولها، وجُلُّها في التعريف، وفي نظري إن لم تنفع، فلن تضر، وهي مفيدة في كثير من التعاريف، وأما بقية الكتاب فمما لا نظير له في بابه.
5ـ الرسالة للإمام الشافعي: محمد بن إدريس القرشي المتوفي سنة (204).
الرسالة وضعها الإمام الشافعي في أصول الفقه، واتفق الجميع على أنها أول مؤلَّفٍ في أصول الفقه، وكفى الشافعيَّ ذلك فخراً، وتأليفها جاء استجابة لطلب عبد الرحمن بن مهدي في تأليفها، فلما اطلع عليها أُعجب بها أيما إعجاب، ولما قرأها قال: «ما ظننت أنه يكون في هذه الأمة اليوم مثل هذا الرجل، وأن الله عز وجل خلق مثل هذا الرجل».([14]). وقال أبو ثور: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: «ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها» ([15]).
وهذه الرسالة مع كونها أول مؤلَّف في أصول الفقه لا تزال أهم كتاب في أصول الفقه لما فيها من بيان طريقة استخراج الأحكام من النصوص الشرعية عملياً، والطالبُ في هذه المرحلة الأخيرة هو بحاجة إلى هذا النوع من الكتب التي تربطه بالأصلين من الكتاب والسنة، وكيفية استخراج الأحكام الشرعية منها مباشرة.
6 ـ حفظ الكوكب الساطع: نظم جمع الجوامع لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة (911). وهذا النظم عبارة عن ألف وأربعمائة وثمانين بيتاً. والسيوطي نظم فيه جمع الجوامع الذي يُعُّّد موسوعة في أصول الفقه ألفه تاج الدين السبكي.
ملحوظة: فالطالب إذا بلغ هذه المرحلة فإنه لا يكتفي بذلك بل عليه أن يطالع على ما أمكن له من بقية الكتب المؤلفة في أصول الفقه، ويستخلص منها كل الفوائد التي تقع عليه عينه.
([1] ) السير ( 10/ 48 ).
([2] ) السير ( 10/ 48 ) مناقب الشافعي لابن كثير ( 159 ).
([3] ) ( السير 10 / 48).
([4] ) تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 265).
([5] ) سير أعلام النبلاء [10 /46]. مناقب البيهقي ( 1/ 55 ).
([6] ) توالي التأسيس ( 101).
([7] ) الآداب لابن أبي حاتم الرازي ( 90 ). والسير (10/ 47) توالي التأسيس( 88 ).
([8] ) آداب الشافعي لابن أبي حاتم الرازي ( ص 90 ) المناقب للبيهقي ( 263 ).
([9]) فقد
([10] ) قال إمام الحرمين الجويني: (وسأجري على أبواب ” المختصر ” ومسائلها جهدي، أنسبُ النصوصَ التي نقلها المزني إليه، وأتعرض لشرح ما يتعلق بالفقه منها، إن شاء الله تعالى. نهاية المطلب في دراية المذهب (1/ 4).
([11]) المجموع شرح المهذب (1/ 4)
([12]) الأم (6/ 203). ونقله عنه البيهقي في معرفة السنن والآثار [1 /184].
([13])تهذيب الأسماء (ص: 875).
([14]) المناقب للبيهقي (1/ 232).
([15])سير أعلام النبلاء [10 /44].