كيف تكتب بحثا أو تؤلف كتاباً
هذه المذكرة مسودة كتبها جامعها ليتعرف من خلالها طلاب العلم على كيفية كتابة البحوث وتأليف الكتب، ولم يكن قصده منها أن تكون تأليفا، ومع ذلك أحب أن ينشرها بين الناس على حالها لمن أراد أن يستفيد منها.
كتبها الدكتور / عمر إيمان أبو بكر
1443هـ 2022م
إن كتابة رسالة علمية، أو تأليف كتاب مرحلةٌ متقدمةٌ بل هي خاتمة المراحل العلمية التعليمية، ولن يصل إليها الطالب إلا بعد النضج في التحصيل العلمي، فهو في هذه المرحلة قد قطعَ كلَّ الأشواط السابقة، فلم يبق له إلا خوض غمار هذه المرحلة التي هي التجربة الحقيقية، فإن أنجزها باقتدار كان ذلك دليلاً على تثبيت المراحل السابقة، وإن حصل فيها، أوفي بعضها خللٌ تبين له بذلك أن هناك جوانب لم يستكملها بعدُ، فليس كل مَن تظاهر بالشيء يكون أهلاً له، والتجربة خير برهان، فكم من أُناس ظنَّ الناسُ بهم خيراً في العلم ظهر زيفهم للعيان عند تأليفهم الكتب، وقد قيل قديماً: إن الذي يُؤلِّف كتاباً كأنما يعرض عقله على الآخرين لينظروا فيه، قال هلال بن العلاء « يستدل على عقل الرجل بعد موته بكتب صنَّفها، وشعرٍ قاله، وكتابٍ أنشأه»([1]). وكان خيراً لهم أن لا يجلبوا على أنفسهم متاعب هم في غنى عنها، قال أبو عمرو بن العلاء. «الإنسان في فُسحة من عقله، وفي سلامة من أفواه الناس ما لم يضع كتاباً، أو يقل شعراً»([2]).
ومع كل تلك المخاطر، فلا بد له من الخوض في تلك التجربة فإن لم ينجح المرء في المرة الأولى، فقد قد ينجح في المرات اللاحقة، لكن عليه أن يرجع إلى الوراء لاستكمال جوانب النقص إن كان جاداً، فالإنسان يعيش في هذه الحياة على أمل يسعى لتحقيقه، أو نقص يتفادى منه.
وعلى كلِّ حال فعلى الطالب أن لا يستعجل في الوصول إلى النتائج بل يتأنَّى، ويتدرج في الأمر، فيكتب مقالاً ليس القصد منه أن ينشره بين الناس، بل ليَعرضه على نفسه لتقييم نفسه، فإن رأى أنه ناجح فيه عرضَه على بعض زملائه ممن هم في مستواه العلمي، فإن أجازوه عرضه على المشايخ فإن حصل على الموافقة فهي بداية خير، وإن لم يحصل على شيء أعاد الممارسة، فإن عجز بعد كل تلك المحاولات عن تحقيق أيِّ تقدم في مجال البحث والكتابة، فليتوقف عنه، وليتحول إلى غيره، فالبحث موهبة تتوفر في بعض الناس، ولا تتوفر في الآخرين
إذا لم تستطع شيئاً فدعه … وجاوزه إلى ما تستطيع
ولكن قد يكون الفشل بسبب سوء فهم عند الطالب، فقد يعتقد أن الموهبة في البحث تعني القدرة على صياغته دون توقف، ولا تفكر، وعليه فإذا رأى أن البحث قد تطلب ذلك منه اعتقد فوراً أن ذلك بسبب عجز قام به، ويجهل أن الكتابة ليست كالخُطب المنبرية المترجلة، وليس هناك شخص يكتب رسالة، أو يؤلف كتاباً من دون تفكر، ولا تردد بل قد يمكث الإنسان يوماً أوأياماً، ولا يستطيع كتابة أي شيء من البحث، وقد يكتب اليوم شيئاً، فيمسحه في غده، وقد يكتب شيئاً، فيتبين له أنه خطأ، فالكتابة معاناة بكل ما تعني الكلمة من المعاني.
الفرق بين الرسائل العلمية والكتب
الرسائل العلمية تختلف عن تأليف الكتب في القصد، فالقصدُ من الرسائل العلمية تدريب الطالب على الكتابة، وتعلميهم طرق البحث للحصول على الدرجة العلمية (ماجستير أو الدكتوراه) ثم تبقى تلك الرسائل في الغالب حبيسة في المكتبات دون الاستفادة منها، وقد لا ترى النور إلى الأبد لأنه قد استُوفي منها الغرض التي من أجلها أُنشِئت تلك الرسائل، وهي الدرجة العلمية بخلاف الكتب فإن القصد من تأليفها إفادة الجمهور بالمعلومات التي يحتوي عليها الكتاب، ولهذا فالكتب تأخذ طريقها إلى المطبعة فور الانتهاء منها إذ لا يُعقل أن يؤلِّف الإنسان كتاباً، ثم يمسكه لديه ليستفيد منه بمفرده.
نحن في هذه الورقات نتحدث عن نوعين من الكتابة: كتابة الرسائل العلمية، وتأليف الكتب الشرعية، ولأجل ما بينهما من الفروق نفصل بينهما عند الحديث عنهما.
أولا: الرسائل العلمية (ماجستير أو دكتوراه)
إنني في هذه العجالة أشير إلى الخطوط العلمية العامة التي لا بد أن يستوفيها الطالب في مرحلتي (الماجستير والدكتوراه).
الخطوة الأولى: الاستشارة فهي وإن كانت مطلوبة في كل شيءٍ إلا أنها في حق الطلاب في الرسائل العلمية آكد لشدة حاجتهم إليها لأن الطلاب في هذه المرحلة لم يصلوا إلى مرحلة النضج حتى يكتبوا رسائل، أو يؤلفوا كتباً، وإنما ألجأتهم الظروف المتمثلة في إنجاز الرسالة العلمية كشرط أساسي للحصول على الماجستير، أو الدكتوراه بصرف النظر عن قدرة الطالب على القيام بذلك أم لم يكن، فلا بد أن يجتازوا تلك العقبة، فهم كما قيل في المثل: ( مكره أخاك لا بطل).
وأولى الناس بالاستشارة هم الأساتذة المتخصصون الذين هم في المؤسسات العلمية، فهم أعرف الناس بالمواضيع الجديرة بالبحث، ثم القائمون على المراكز البحثية، فلا يترك أحداً يظن أن عنده ما يفيده في هذا الموضوع صغيرا كان أو كبيراً، بعيداً، أو قريباً إلا استفاد منهم.
الخطوة الثانية: اختيار الموضوع:
اختيار الموضوع وهذه الخطوة هي من أصعب الخطوات في البحث العلمي، فالمطلوب من الطالب أن يبذل جُهداً مضنياً لمعرفة المواضيع التي تصلح أن تكون موضوعاً لرسالته عن طريق فهارس المكتبات، والمراكز العلمية، والمجلات المتخصصة، وبدوائر المعارف العالمية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ثم سؤال أهل الاختصاص من أساتذة، والقائمين على المكتبات العلمية في بلده بالمشافهة وغيرهم بالمراسلة، وبأي وسيلة تساعده للحصول على المعلومات المطلوبة حتى لا يقع اختياره على موضوع سبق البحث فيه، فيكتشف ذلك بعد المضي فيه، فيكون ذلك سبباً لإلغاء رسالته، فيضيع وقته وجهده.
فبعد اجتياز هذه الخطوة من اختيار الموضوع يكون الطالب قد وضع عن كاهله عبئاً ثقيلاً لأن فكرَه بعد الاختيار ينحصر في موضوع محدد، فإن وُفِّق الطالب لموضوع مناسب كان ذلك إنجازاً كبيراً في عمله، وللوصول إلى ذلك فلا بد من النظر إلى الموضوع الذي يختاره من زوايا متعددة، منها على سبيل المثال:
1ـ القيمة العلمية للموضوع الذي يختاره
2ـ الجديد الذي يضيفه بحثه إلى المكتبة
3 ـ مدى توفر المراجع اللازمة لإنجازه
4ـ قدرته على إنجاز الموضوع في المدة الممنوحة له.
أما فيما يتعلق بالقيمة العلمية، فلا بد للطالب أن يضع ذلك في حسبانه عند اختيار الموضوع لأنه غير لائق بطالب العلم الشرعي أن يكون همه الأول والأخير هو الحصول على الدرجة العلمية من بحثه دون النظر إلى القيمة العلمية فإن ذلك يخل بإخلاصه.
وأما ما يتعلق بالجديد الذي يضيفه بحثه فذاك أيضاً مطلوب، فقد يكون بحثه ذا قيمة علمية لكن في المكتبات ما يغني عنه من البحوث الأخرى، ولهذا تشترط الجامعات على الطلاب أن يثبتوا عند تقدمهم بموضوع البحث أنه لم يتم البحث عنه في رسائل علمية في أي جامعة في العالم.
وأما فيما يتعلق بتوفر المراجع، فهذا مهم أيضاً في حق الطالب لأن بعض الطلبة قد تستهويهم بعض العناوين، فيختارونها لجودتها وجمالها عنواناً لرسائلتهم، ثم يتفاجأون بمحدوديتها، وعدم توفر المراجع اللازمة لها، فيتورطون فيها.
وأما ما يتعلق بقدرته على إنجاز البحث في المدة المحدودة فحتى لا يختار الطالب موضوعاً واسعاً لا يمكن الوفاء بحقه في رسالة واحدة كأن يختار الطالب الحكم على الأحاديث صحة وضعفاً في المعجم الطبراني الكبير بدلاً من أن يقول الحكم على أحاديث زيد بن ثابت في المعجم الكبير للطبراني مثلاً، والوقوع في مثل هذا الخطأ قد أدَّى ببعض الطلبة إلى الإخلال بمتطلبات البحث العلمي نظراً لسعة البحث وطوله، فلم يتسن لهم أن يستوعبوه بالدراسة التي تتوفر فيها معايير البحث العلمي.
بعد اختيار موضوع الرسالة والموافقة عليه
إذا تمَّت الموافقة للطالب على موضوعه مِن قبل المؤسسة العلمية التي ينتمي إليها، فعلى الطالب أن يُشمِّر عن ساعد الجد للقيام بالأمور الآتية:
1ـ القراءة الموسَّعة للمراجع الأصيلة في موضوع رسالته، فعلى الطالب أن يقرأ على أقل تقدير خمسين مرجعاً من أهم المراجع في موضوع رسالته قراءةً فاحصةً متأنيةً، وهذا القراءة تعطي الباحث فهماً عميقاً لموضوع بحثه مما يُمكِّنه بإذن الله أن يُنجز عمله على أحسن حال لأنَّه بذلك يكون قد سبر غور موضوعه، واستوعبه من كل وجهٍ.
2ـ يستعين على معرفة المراجع بفهارس بعض الكتب المحققة في موضعه لأن المحقق يكون قد رجع إلى معظم تلك المراجع المتخصصة، وبالتالي فإنه سيجلها في قائمة المراجع، فالمحقق يُثبت كل المراجع التي رجع إليها، أو استفاد منها في تحقيقه، فيسجل عنها كل المعلومات المتعلقة به من طبعة، والدار التي طبعته وتاريخ الطبعة، وغير ذلك مما يسهل على الطالب الوصول إلى أكبر قدر من المراجع في أقرب وقت ممكن.
3ـ يُعِدُّ الطالب لنفسه بطاقات بأحجام متساوية، فيسجل فيها كل المعلومات التي تمر عليه أثناء قراءته لتلك المراجع الأصيلة على أن يفرق بين تلك المراجع، فإن كان المرجع موجوداً عنده بملكه، أو بإعارة، أو بالمكتبة القريبة، فإنه يكتفي بالإشارة إلى مكان وجوده، وإن كان المرجع غير موجود لديه، أو أنه في مكان بعيد عنه، أو أنه مرجع معار له في أيام محدودة، فإن عليه في هذه الحالة أن يكتب تلك المعلومة بتمامها، ثم يتأكد من صحة نقله لها، ثم يوثقها من ذلك المرجع بالجزء، والصفحة، والطبعة، وتاريخها، والمحقق حتى لا يحتاج الرجوع إليه في تلك المعلومة مرة ثانية، فيستخلص كل المعلومات من تلك المراجع الغير الموجودة لديه على تلك الطريقة.
4 ـ بَعد جَردِ المعلومات من تلك المراجع على الطريقة المشار إليها يعود الباحث إلى تلك البطاقات، فيرتبها على حسب خطة البحث بحيث يصنف كل مجموعة من البطاقات المتعلقة بباب واحد في خانة واحدة، فتكون النقول التي يحتاجها في ذلك الباب معلومة، ومسجلة لديه.
ملحوظة: بعد قراءة تلك المراجع لا يعني أن الطالب يتوقف عن القراءة بل لا بد أن يستمر في القراءة مدة الرسالة كلها، لكن بوتيرة أقل مما سبق، ويتوسع في قراءته حتى تشمل المراجع الأخرى غير المتخصصة، ثم لا يهمل النظر في المخطوطات التي لم تنشر، فقد يجد فيها معلومات قيمة، ورجوع الباحث إلى المخطوطات دليل على جديته في البحث.
5ـ تعديل خطة البحث
وعند انتهاء الباحث من جرد المعلومات الموجودة في المراجع الأصيلة وغيرها قد تتغير لديه مفاهيم كثيرة عن موضوع البحث، فقد يجد فقرات جديرة بالإضافة إلى البحث، وعلى العكس من ذلك، فقد يتبين له أن بعض الفقرات لا تسحق أن تبحث عنها، أو تفرد بعنوان، أو بابٍ، كما قد يظهر له تقديم بعض الأبواب على غيرها، وفي هذه الحالة يتشارك مع مشرف الرسالة في تلك المستجدات، فإن اقتنع المشرف بوجهة نظر الباحث، فعليه أن يتقدم الباحث إلى قسمه في الكلية بطلب تعديل خطة البحث على ضوء تلك المستجدات داعماً موقفه بموافقة مشرف الرسالة في ذلك.
6 ـ كتابة الرسالة
بعد استكمال كل الخطوات السابقة يشرع الطالب في كتابة الرسالة، وهنا يبرز دور الطالب فيما لديه من التحصيل العلمي، فإن كان قد تحصَّل على علوم الآلة من نحو، وصرف، وبلاغة على النحو الذي أشرنا إليه سابقاً في المقترح المتعلق بتعلم اللغة العربية سيظهر أثر ذلك في هذه المرحلة التي هي الامتحان الحقيقي للطالب، فالمطلوب من الطالب في هذه المرحلة أن يكتب الرسالة بأسلوب علمي تتوفر فيه المعايير العلمية من سلامة الرسالة من الأخطاء الإملائية والنحوية، وركاكة الأسلوب، والحشو، وتفكك العبارات في الجمل، ولم أر عيباً أسوأ من طالب في البحث العلمي غير قادر على صياغة الأسلوب الذي يريده، والتعبير عن المعاني التي تدور في خلده، فيحاول دوماً سرقة أساليب الآخرين حتى يصورها أنها من تعبيره الحر، فسرعان ما يفتضح بذلك لأنه قد تعاطى ما ليس فيه.
الأمانة العلمية وتتمثل فيما يلي:
1ـ عزو الآيات إلى سورها مع أرقامها.
2ـ تخريج الأحاديث النبوية من مصادرها الأصيلة، ونقل كلام العلماء عليها لبيان درجتها صحةً وضعفاً
3 ـ توثيق كل المعلومات التي ينقلها الطالب من غيره في رسالته
4ـ نسبة الأقوال إلى قائليها من غير زيادة، ولا نقصان، ووضع علامات التنصيص عليها لمعرفة قول كل قائل بداية ونهاية، قال السيوطي ( من بركة العلم وشكره عزوه إلى قائله).
5ـ الدقة في النقل، والتأكد من سلامة المنقول من السقط، أو التحريف لأن ذلك من شأنه أن يجعل النص دالاً على نقيض معناه.
6 ـ استيعاب أدلة كل قول، وإن ظهر للباحث أنها مرجوحة في نظر الباحث.
7ـ أن لا ينقل من المصادر الفرعية، أو البديلة مع وجود المراجع الأصيلة، فإن ذلك غير مقبول في الرسائل العلمية، لكن إذا لم تكن المراجع الأصيلة مفقودة أوصعب الوصول إليه في مكانه عندئذ يجوز النقل عن المصادر البديلة على أن يكن القول للقائل الأول النوع الأول.
ملحوظة: المقولة المنتشرة بين الباحثين التي تقول: إن على الباحث التجرد التام، وعدم تكوين رأي مسبق في موضع البحث، والوقوف من جميع الآراء موقفاً حياداً، فلا يسلم بالآراء قبل دراسة الأدلة التي اعتمد عليها، وأن يكون للباحث شخصيته المستقلة إلى آخر ما هنالك مما نسمعه دأئماً.
فهذا الكلام فيه حق وباطل، فلا يصلح الأخذ بعمومه، فيصلح فيمن يكتب في المسائل الفرعية كالمسائل الفقهية المختلف عليها بين الأئمة في الفقه، فلا ينبغي لمن يريد الوصول إلى الراجح من أقوالهم أن يتناولها وهو متعصب لأحد الأئمة لأن النتيجة ستكون معلومة مُسْبَقاً كما هو الحال في الكتب التي يؤلفها المقلدة للمذاهب، كل منهم يتعصب لإمامه، وينتهي في بحثه إلى قول إمامه حقاً كان أو باطلاً.
ولكن تلك المقولة لا تصلح الاعتبار بها إذا كان البحث يتعلق بالمسلمات التي لا تقبل الجدال، فلو أراد المؤلف أن يرد على أهل الباطل في تأليفه، كرد السني على الشيعة، والإسلامي على العلماني، والمسلم على المسيحي، والمؤمن على الملحد، فهؤلاء وأمثالهم لا يمكن أن يقفوا موقفاً حيادياً من الفريقين بل عليهم أن يردوا على خصومهم، وهم يعلمون في البداية أنهم (أي الخصوم) على الباطل، وأنه على الحق، وعلى ضوء ذلك يسير في بحثه.
دور المشرف على الرسالة
ولعلم المؤسسة التعليمية بمستوى الطالب في المرحلتين تُعيِّن له أستاذاً مشرفاً على رسالته ليعرض عليه الطالب كل ما كتبه، فإن وافق له المشرف استمر عليه، وإن رفضه المشرف أعاد الكتابة من جديد على ضوء ما طلب منه المشرف من تعديلات، فكلما صُعب عليه أمرٌ في الرسالة رجع للمشرف ليدله على الطريق الصحيح، وهكذا يسير المشرف مع الطالب خطوة بخطوة من بداية البحث إلى نهايته، وهذا هو دور المشرف الخائف من الله فيما أُسند إليه من مهام الإشراف، ولكن بكل أسف تحوَّل كثيرٌ من المشرفين في الآونة الأخيرة في كثير من المؤسسات التعليمية ديكوراً لتجميل الرسالة باسمه لا غير، والطالب يعبث بالرسالة على حسب رؤيته متظاهرا أن ذلك كله تم بموافقة المشرف له.
وقد أخبرني أحد الطلاب في جامعة خارج الصومال أن مشرفه قال له: اكتب البحث بنفسك، ثم مُرَّ بي قبل ليلة المناقشة بساعات لألقي النظرة عليه، وبذلك يكون المشرف على الرسالة غاشاً للمؤسسة، وخائناً لأمانته، وآكلاً للحرام فيما يأخذه من الجامعة من رواتب لأن جزءاً منها مخصصا للإشراف على الرسائل العلمية.
ثانيا: تأليف الكتب في العلوم الشرعية
بما أن تأليف قديم قدم الإسلام فقد تحدث عنه كبار العلماء قديما وحديثا وأشبعوه بحثا وتحقيقا فليس عندي ما يضيفه إلى كلامهم غير التنسيق والترتيب فيقول: ـ وبالله التوفيق ـ
التأليف لغة: قال التهانوي: التأليف إيقاع الإلف بين شيئين أوأكثر([3])
وقال ابن منظور:«ألفت بينهم تأليفا إذا جمعت بينهم بعد تفرق، والفت الشيء تأليفا إذا وصلت بعضه ببعض، ومنه تأليف الكتب»([4]).
واصطلاحا:جمع الأشياء المتناسبة في علم من العلوم، أو في فنِّ من الفنون ([5]).
الهدف من تأليف الكتب
قد بيَّنا فيما سبق أن هدف الرسائل العلمية يختلف عن هدف تأليف الكتب، وبينا هناك أن الهدف من تأليف الكتب هو نشر العلم، وإعلام الناس بما في تلك الكتب من الفوائد، هذا هو الهدف الأعظم في تأليف الكتب، وهناك أهداف أخرى تتحصل معه منها: تثبيت العلم، وصقل العقل، و تنمية المواهب
قال الخطيب البغدادي في فوائد التأليف والتصنيف«يُثبت الحفظ، ويُذكي القلب، ويشحذ الطَّبع، ويبسط اللسان، ويَكشف الملتبس، ويُكسب أيضاً جميل الذكر، وتخليده إلى أخر الدهر»([6]).
ما ذكره الخطيب هنا هي الأهداف التي تعود بالفائدة على المؤلف نفسه من خلال تأليفه للكتب، وهناك أهداف أخرى يسعى المؤلف إلى تحقيقها من خلال تأليفه للكتب، وقد حصرها ابن حزم الظاهري في سبعة أهداف فقال ـ رحمه الله ـ « والغرض من التأليف إما شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتمه، أو شيء مستغلق صعب يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أوشيء متفرق، فيجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه، فيصححه»([7]).
واستَدرك بعضهم على ابن حزم بأمور أخرى على ما ذكره، منهم: صديق خان فقد أوصلها إلى سبعة عشر مقصداً في مقدمة كتابه أبجد العلوم، فذكر منها «نثر المنظوم، ونظم المنثور، والترجمة، والرد على الشبهة، وتصحيح الكتب، وتحقيقها إلى آخر ما ذكره، وهي عند التحقيق لا تخرج عما ذكره ابن حزم، فغرض المترجم في الترجمة هو غرض المؤلف الأول، فغاية ما في الأمر أن القراء للكتابين اختلفوا، والمعتبر في نظري من تلك الزيادات هو الرد على الشبهة فليست تدخل في شيء مما ذكره ابن حزم، وأما تحقيق الكتب، ونثر المنظوم ونظم المنثور فدخولها فيما ذكره ابن حزم واضح.
والأغراض التي من أجلها تُؤلَّفُ الكتب ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية بل هي تتفاضل بحسب حاجة الناس إليها، فبعض الأغراض أنبل من غيرها، فأفضلها على الإطلاق التصنيف فيما لم يسبق إليه، ثم ما كثرت فيه فوائده من زيادات على الأصل، وهذا ليس خاصاً بالتأليف، بل في كل الأعمال الصالحة، فالمؤمن يختار ما يكثر نفعه على ما يقله، أو ينعدم.
قال النووي:«وينبغي أن يكون اعتناؤه من التصنيف بما لم يسبق إليه أكثر، والمراد بهذا أن لا كون هناك مصنف يغني عن مصنف في جميع أساليبه، فإن أغنى عن بعضها، فليضف من جنسه ما يزيد زيادات يحتفل بها مع ضم ما فاته من الأساليب، وليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به، ويكثر الاحتياج إليه»([8]).
المواصفات المطلوبة توفرها في مؤلف الكتب
تأليف الكتب تختلف عن كتابة الرسائل العلمية، فتأليف الكتب يقصد بها إفادة الناس بما فيها من علوم، ولا يرقى إلى ذلك إلا من توفرت فيه مواصفات معينة يأتي في مقدمتها إخلاص العمل لله تبارك وتعالى فيما يكتبه من العلوم لأنها طاعة وقربة إلى الله، ولا يجوز صرف شيء من العبادة لغير الله، ثم أن يكون الشيء الذي يقدمه للناس نافعاً لهم في دينهم ودنياهم، فلا يجوز شغل الناس بغير النافع، فذاك تضييع لأوقاتهم في غير فائدة.
قال السيد مرتضى اليماني: «وإنما جمعت هذا المختصر المبارك ـ إن شاء الله ـ لمن صنفت لهم التصانيف، وعنيت بهدايتهم العلماء، وهم من جمع خمسة أوصاف، معظمها الإخلاص، والفهم، والإنصاف، ورابعها ـ وهو أقلها وجوداً في هذه الأعصار ـ الحرص على معرفة الحق من أقوال المختلفين، وشدة الداعي إلى ذلك الحامل على الصبر، والطلب كثيراً، وبذل الجهد في النظر على الإنصاف، ومفارقة العوائد، وطلب الأوابد، فإن الحق في مثل هذه الأعصار قلما يعرفه إلا واحد بعد واحد، وإذا عظم المطلوب قل المساعد »([9]).
التأليف لمن لم تكتمل أهليته فيه
حذر غير واحد من أهل العلم أن يشرع الشخص في التأليف قبل أن تكتمل أهليته فيه لأن ذلك يأتي بنتائج عكسية تعود عليه وعلى المجتمع بالضرر لأن الخطأ الواقع في الكتب يبقى ما بقي ذلك الكتاب، فهو أكبر من مجرد خطأ جرى على لسانه لحظة، ثم يزول بعد فترة من الوقت، قال النووي:«وليحذر كل الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهل له، فإن ذلك يضره في دينه وعلمه وعرضه، وليحذر أيضا من إخراج تصنيفه من يده إلا بعد تهذيبه وترداد نظره فيه وتكريره، وليحرص على إيضاح العبارة، وإيجازها فلا يوضح إيضاحا ينتهي إلى الركاكة، ولا يوجز إيجازاً يفضي إلى المحق والاستغلاق »([10]).
حكم تأليف الكتب لمن هو قادر عليه
حكم تأليف الكتب يختلف من إنسان لآخر، ومن زمن إلى غيره، فقد يتعين التأليف على الشخص إذا لم يوجد غيره، والناس بحاجة إلى تأليفه في باب من أبواب العلم لا يجيده غيره، وتعيَّنَ التأليفُ سبيلاً لنشر العلم، ولم تكن هناك وسيلة أخرى، وفي أغلب الأحوال، فالتأليف فرض كفاية في كل زمان ومكان، فإن وُجد من العلماء من يقوم به سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثم الجميع.
قال الزركشي في قواعده: «من فروض الكفايات تصنيف العلم على من منحه الله فهماً، واطلاعاً، فلو تُرك التصنيف لضُيِّعَ العلمُ على الناس، وقد قال الله تعالى: «وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه»([11]).
ولهذا لا يحسن بمن وجَد في نفسه أهلية في التأليف أن يتأخر عنه، لما يحصل منه من النفع الذي يعود على المؤلف نفسه قبل غيره من الناس ذلك لأن التأليف هي المرحلة الأخيرة في صقل مواهب الإنسان، وتفجير طاقاته العلمية، فالتأليف يحمل الإنسان على التثبت من كل المعلومات، والتأكد فيما يكتب وينقل حتى يخرج مؤلفه على أحسن حال.
قال النووي: «وينبغي أن يعتني بالتصنيف إذا تأهَّل له، فبه يطالع على حقائق العلم ودقائقه، ويثبت معه لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش والمطالعة والتحقيق والمراجعة والاطلاع على مختلف كلام الأئمة ومتفقه، وواضحه من مشكله، وصحيحه من ضعيفه، وجزله من ركيكه، وما لا اعتراض عليه من غيره، وبه يتصف المحقق بصفة المجتهد»([12]).
التفرغ للتأليف والتركيز عليه
يجب على من شرع في تأليف كتاب من كتب العلم أن يَعتَنِي به بالتفرغ له وصرفِ الهمة إليه، وقطع العلائق بغيره ليخرج الكتاب على أحسن حال، قال الخطيب البغدادي: «وينبغي أن يُفرِّغ للتصنيف قلبه، ويجمع له همه، ويصرف إليه شغله، ويقطع به وقته، وقد كان بعضُ شيوخنا يقول: من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ، وليأخذ قلم التخريج»([13]).
…
عرض الكتاب على غيره من العلماء بعد الفراغ من تأليفه
لا يجوز للمؤلف أن يُخرج الكتابَ المُؤلَّف للناس إلا بعد التأكد من سلامته من الأخطاء لا سيما العلمية، ولهذا يحسن بالمؤلف أن يعرض كتابه على غيره من العلماء، فأيُّ كتاب مؤلَّف في فن من الفنون لم يُعرض على أهل الاختصاص، فهو في نظري عبارةٌ عن مجموعة من الأخطاء، ولا يستحق تسميته بكتاب لكثرة الأخطاء التي تقع فيه، فالإنسان لا يدرك خطأ نفسِه في كثير من الحالات، فقد رأينا أن المؤلف يقرأ كتابه مرات عديدة، وهو لا يتفطن للأخطاء القاتلة الموجودة فيه، فيتعجب من فداحتها إذا تم التنبيه عليها، فيتساءل كيف حصل مني هذا الخطأ، وكيف لم يتنبه له مع كثرة تكرار قراءة الكتاب، قال يحيى بن أبي كثير «مثل الذي يكتب، ولا يعارض([14]) مثل الذي يَقضي حاجته، ولا يستنجي»([15]).
فإذا أصرَّ المصنف على أن يُخرج كتابَه من دون عرضه على الآخرين ثقةً في نفسه، واعتماداً على قراءته الخاصة وقعتْ فيه زلَّاتٌ لا يستطيع تداركها لأن الكتاب ينتشر بين الناس في الآفاق، فيندم في وقت لا ينفع فيه الندم، فيكون المؤلف بذلك مؤلفُه عُرضة للطعن، والشتم أبد الدهر، فقبل أن يفوت الأوان، عليه أن يأخذ المُؤلِّف بنصيحة أهل العلم في عرض كتابه الجديد على من هو أعلم منه، فعلمُ شخصٍ واحد بأخطائك مع إمكانية تداركها أهون من علم الجميع بها دون التدارك، قال كلثوم العتابي: «من صنع كتاباً، فقد استَشرف للمدح والذم، فإن أحسن فقد استهدف للحسد والغيبة، وإن ساء فقد تعرض للشتم، واستُقذف بكل لسان»([16]).
والإنسان مهما أوتي من العلم فإن لن يصل بمؤلفاته حد الكمال وإن كرَّر قراءته مئات المرات، وإن استعان بأهل الخبرة، فعمل البشر لا يخلو من خلل،
قال المزني: « قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة، فما من مرة إلا وكان يقف على خطأ، فقال: هيه، أبي الله أن يكون كتابٌ صحيحاً غير كتابه»([17]). وقال ابن رجب: «ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتَفر قليلَ خطإِ المرء في كثير صوابه»([18]).
فكلما قرآ الإنسان كتابه ظهر له فيه من الأمور ما يستدعي إلى إعادة النظر فيه، فالوصولُ إلى الكمال غير مستطاع، ولكن على الإنسان أن يبذل قصارى جهده مستعيناً بأهل الخبرة فيه، ثم يستقبل ما يرد من الناس من ملحوظات عليه ليستدركها في الطبعات القادمة.
قال القاضي عبد الرحيم البيساني بعثه بها إلى ابن العماد الأصبهاني: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده، لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر»([19]).
التأليف صدقة جارية لمؤلفه، وتخليد لذكراه بعد مماته
إذا ألَّف الإنسان كتاباً في العلوم الشرعية، فقُدر أن ينتشر بين الناس، فإنه بذاك يجري الأجر لمؤلفه ما بقي الكتاب مُنتفَعَاً به، فهو صدقة جارية بعد موته داخل في الثلاثة التي أخبر عنها النبي r أنها لا ينقطع ثوابها عن صاحبها، ففي حديث أبي هريرة t عن النبي r أنه قال:« إذا مات الإنسان انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له»([20]).
فالكتاب أوسع انتشاراً من التدريس، لهذا رأى بعض أهل العلم أن تخليد الكتب أفضل من تدريس العلم. قال ابن الجوزي: « رأيت من الرأي القويم أن نفع التصنيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقاً لا يُحصون، ما خُلقوا بعد، فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وُفِّق للتصنيف المفيد، فإنه ليس كل من صنَّف صنف، وليس المقصود جمعَ شيءٍ كيف كان، وإنما هي أسرار يُطلع الله ـ عز وجل ـ عليها مَن شاء من عباده، ويُوفِّقه لكشفها، فيجمع ما فُرِّق، أو يُرتِّب ما شُتِّت، أو يَشرَح ما أُهمل هذا هو التصنيف المفيد»([21]).
([1]) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 283)
([2]) الجامع لأخلاق الرااوي للخطيب البغدادي (2/ 282).
([3]) كشاف إصلاحات الفنون. (1/376).
([4]) لسان العرب مادة الف.
([5]) الوجيز في أصول البحث والتأليف (1/319).
([6] ) الجامع لأخلاق الراوي ( ص 135 ).
([7] ) رسائل ابن حزم (2/ 186).
([8]) المجموع شرح المهذب (1/ 30).
([9]) إيثار الحق على الخلق (ص: 27)
([10]) المجموع شرح المهذب (1/ 30).
([11]) المنثور في القواعد (3/ 35).
([12]) المجموع شرح المهذب (1/ 29).///
([13] ) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 282).
([14]) المراد بالمعارضة: المقابلة
([15]) الجامع لأخلاق الراوي (1/ 275)
([16]) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 283).
([17])حاشية ابن عابدين (2/27).؟؟؟
([18]) القواعد ( ص 2).
([19]) شرح الإحياء للزبيدي ( 1/ 3) وكثير من الناس ينسبونها للعماد الأصبهاني والتحقيق أنها للبيساني.
([20]) رواه مسلم في صحيحه (1631).
([21]) صيد الخاطر (ص 207).
Halkan Kaso Dagso Risaalada oo PDF Ah