الديمقراطية

الديمقراطية

 نحن أمة مسلمة ذات دين وحضارة وتاريخ، وقد منَّ الله علينا بكتاب هدانا به من الضلالة، وبصَّرنا به من العمى، وفيه بيان لكل ما تحتاج إليه البشرية في دنياها وأخراها (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) فمن العيب على أمة   قادت العالم عبر قرون أن تعود اليوم إلى الوراء لترضى بنفسها بالتبعية لغيرها من أمم الأرض في أخص خصوصياتها، فتجري وراء سراب الديمقراطية، أليس في ديننا نظام يصلح للحكم، إذا كان الجواب نعم، وهو كذلك،  فلماذا التبعية لغيرنا، وقد سمانا الله خير أمة وُجدت على وجه الأرض (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).

 وعندنا نظام إسلامي مبني على الشورى، وقد أمرنا الله بها في قوله        (وأمرهم شوى بينهم) وترك للأمة كيفية تطبيقاتها، ومن الممكن أن نطور الشورى الإسلامية يما يجعلها تتناسب مع متطلبات الحياة في كل عصر دون الحاجة إلى تقليد الأمم الكافرة، لكن لما عجزنا في الآونة الأخيرة عن دورنا في قيادة العالم طَمِع فينا كل مفلس أن يقودنا على طريقته التي يراها، فصرنا بذلك في ذيل الأمم، ولن يصلح حالنا إلا بما صلح به حال أول هذه الأمة  (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله) فإذا قلدناهم على نظامهم الديمقراطي الوضعي الموضوع قبل قرن من الزمان نكون قد حكمنا على كل تجارب المسلمين من عهد النبي إلى يومنا بأنها غير ناضجة، وبالتالي فهي غير صالحة للاقتداء بهم فيها، وكفى بالرأي قبحا إن أدى بصاحبه إلى هذه النتيجة.

اشتقاق الديمقراطية

هذه التسمية مأخوذة من كلمتين: السلطة والشعب، وهي كما قال المنظرون لها:  تعني في مضمونها: حكم الشعب بالشعب، وإذا تجاوزنا هذه التسمية والأصل في اشتقاقها، فالديمقراطية هي أكذوبة القرن، وأضحوكة الأمم، وكفاها قبحاً أن أصحابها سموها اللعبة الديمقراطية، وقد صدقوا في ذلك، وخير شاهد على ذلك ما يحصل بين المترشحين وقت الانتخابات من السباب، والشتائم، والطعن، والتجريح، كل في الآخر، ثم يمدح المترشح نفسه بما ليس فيه، ويدعي كفاءات لا تتوفر لديه، ويوزِّع وعوداً على الهواء ليس مؤهَّلا لتصوُّرها ناهيك عن تنفيذها، وإنما لقصد التجاوز بها قنطرة الانتخابات، فإذا فاز ولَّى ظهرَه لمن انتخبه ناكراً كل جميل قدموه وقت حاجته إليهم، وهذا كله ليس بشيء في مقابل ما يُبذل في الانتخابات من أموال العامة والخاصة كرشاوى، أو في الدعايات من أجل تلميع صورة هذا المرشح، أو ذاك مما لا يُقِرُّه عقل، ولا شرع.

الديمقراطية كلمة مطاطة

هناك أشكال متعددة للديمقراطية، وليس في الدول الديمقراطية نظامان متفقان تمام الاتفاق على مفهوم الديمقراطية، فالديمقراطية حمَّالة الأوجه، ولا يمكن لأحد أن يزعم أن ديمقراطيته هي النموذج الأمثل من غيرها، فكل واحد يعتد بما عنده، ويرى أن ما عند غيره من الديمقراطيات معيبة، فلا يعترف بها، ولهذا فأكثر الدول استبدادا تسمي نظام حكمها ديمقراطيا ككوريا الشمالية الذي وصل رئيسها في الاستبداد إلى حد العبادة، فاسم الدولة في ذلك النظام (جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية) ومحمد سياد بري بعد الانقلاب على الحكومة المدنية في الصومال جعل اسم البلد هكذا (جمهورية الصومال الديمقراطية) ولم يكن يقبل أن يترشح أحد معه في الانتخابات الصورية التي كان يجريها ناهيك عن قبول تبادل السلطة.

نشأة الديمقراطية

الديمقراطية أول ما نشأت، نشأت في الدول الأوربية، وكانت نمطاً من أنماط تبادُل السلطة سلمياً مما جعل أوربا تفتخر بها لأنها وصلت إلى التجربة الديمقراطية بعد صراع مرير مع الملوك الذين كانوا يمتلكون الشعوب كامتلاكهم للبهائم، ولا شك أن تلك الشعوب الأوربية سَعِدتْ بالديمقراطية رغم عيوبها، وأنهت بذلك عقوداً من الاستبداد والظلم الذي عاشته في الملكية والإقطاعية، والبرجوازية، وقد عانت قبل ذلك من تسلُّط رجال الكنيسة المتحكمين في الشعوب ليس في حكمها فحسب بل حتى في طريقة تفكيرها مما جعل رجال الكنائس أرباباً يُعبدون من دون الله.

 وفي المقابل برز في الشرق بزعامة الاتحاد السوفييتي قوة جبارة مناهضة للديمقراطية تتخذ الاشتراكية أسلوب حياة، وتعتمد في تنفيذ سياستها على القهر والاستبداد، فانقسمت دول العالم إلى كتلتين: كتلة تابعة للدول الديمقرطية بزعامة الولايات المتحدة، وكتلة ثانية تابعة للدول الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي، وكان كل من الفريقين يسعى لاستقطاب أكبر عدد من الدول إلى كُتلته، فكانت الدول الغربية يومها مخلصة في ديمقراطيتها ونشرها بين دول العالم، وكانت تكافئ أي دولة تنضم إليها في معسكرها بالوقوف معها في وجه الدول الشيوعية، ودعمها في كل المجالات.

الديمقراطية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي

انهار حلف (وارسو) بانهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن الماضي وتفكَّكَ إلى الأبد بحيث لم يعد له وجود اليوم، ومن أجل ذلك انضمت معظم دول حلف (وارسو) إلى حلف (ناتو) بل إن روسيا التي هي الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي تحولت إلى دولة ديمقراطية، ولو شكلاً، وبذلك لم يَعُدْ ما تخاف منه الدولَ الغربية من عدوها التقليدي (حلف وارسو) بل إن الاتحاد الروسي بعد تفككه طلب أن يكون عضواً في حِلف (ناتو) إلا أن أمريكا رفضت ذلك، لأن ذلك يجعل الترسانة العسكرية الضخمة التي تدفع لها نصف ميزانية الدول بلا معنى، فلا بد من وجود عدوي حقيقي، أو إيجاده إن لم يكن موجوداً.

لكن بما أن السنن الإلهية في الأرض قائمة على التدافع، فلا بد من ظهور قوة أخرى منافسة، وبعد دراسات مستفيضة تبين للخبراء في الدول الغربية أن الإسلام السني هو القوة المرتقبة، وفي حرب أمريكا ومعها الدول الغربية في أفغانستان عشرين عاماً، ثم انسحابها منها من دون شرط مُعلِنةً الهزيمة أمام هؤلاء المجاهدين العُزل ما يدعم تلك النظرية، صحيح أن الإسلام ليس هو وحده المهدد للحضارة الغربية، بل هناك الصين الشيوعية، وهي قوة متنامية لا يمكن تجاهلها، وبمرور الزمن يرون أن الإسلام سيشكل خطراً عليهم لأنه يملك من المُقوِّمات ما لا يملكه أيُّ نظامٍ عالمي اليوم، واتفق الجميع أن القوة العسكرية ليست تكفي وحدها لدليل هزيمة أمريكا في أفغانستان، وبدليل وقوف إسرائيل عاجزة عن تحقيق نصر في حربها مع حركة حماس طوال ثلاثة عقود من الحروب الطاحنة.

ولمواجهة المد الإسلامي، وإيقاف مشروعه، أو تأخيره على الأقل لسنوات شرعت الدول الغربية في إحداث القلائل في البلدان الإسلامية بما عُرف لاحقاً بالفوضى الخلَّاقة من أجل إشغال الشعوب المسلمة بنفسها مستخدمين كل شيء ضدهم بما في ذلك الديمقراطية، فيفرضون على بعض الدول الإسلامية حصاراً وتضييقاً بحجة أنها دولٌ دكتاتورية، وإذا قُدر لدولة أن تنهج الديمقراطية على طريقته ينظرون، فإن فاز فيها إسلاميون حاربتهم في الباطن بتسليط المستبدين عليهم من جديد حتى يتم إسقاطهم، وبذلك اتخذت الدول الغربية الديمقراطية أداة للاستفزاز والتدخل في شؤون الشعوب المسلمة من أجل خدمة أغراضهم الاحتلالية بدلاً من أن تكون أداة للتحضر والتقدم.

 وإن اختار الشعب المسلم الإسلام منهجَ حياةٍ له، فإن الدول الغربية لا تحترم بإرادة ذلك الشعب، وهذا تناقض منها، فهم في الوقت الذي ينادون باحترام إرادة الشعوب في اختياراتها يعترضون على الشعوب المسلمة فيما تختاره لنفسها، فإذا قُدر أن اختارت أمةٌ من الأمم من النظم غير ما عند الدول الغربية لم يعترفوا بها لأنهم يرون أنفسهم أنهم وحدهم هم الذين يملكون النظام الشرعي، وعلى غيرهم أن يسيروا على نهجهم، وهذا بلا شك طغيان ما بعده طغيان، وهو مبدأ موروث من كبير الطغاة في زمانه، فيما حكى الله عن فرعون: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

ثم إنهم في الوقت الذي يختارون من يمثلهم في بلادهم كيفما شاءوا دون إملاءات ولا ضغوطات عليهم في الداخل، ولا في الخارج يمارسون كل الضغوطات على الشعوب المسلمة، فيطالبونهم بتخصيص مقاعد للأقليات من غير المسلمين، وأخرى للنساء، وهم لا يخصصون لغيرهم في بلدانهم مقعداً واحداً مع وجودهم فيهم بكثرة، فإذا رُوجعوا في هذا التناقض، قالوا: إنكم لستم ناضجين في الديمقراطية، فلا بد من تقييد تصرفاتكم في الديمقراطية حتى لا تسيئوا إليها، وهذه إهانة ما بعدها إهانة، ولهذا فلو أن شعباً مسلماً اختار حاكمه باختياره مدى الحياة ما دامت أهلية الحكم متوفرة فيه، فلا يقبلون ذلك منا، ولا يحترمون بإرادة ذلك الشعب، بل يعتبرون ذلك إساءة إلى الديمقراطية لأنه ليس متوافقا مع ما عندهم من الديمقراطية المؤقتة بخمس سنوات، أوأربع سنوات.

الكشف عن حقيقة الديمقراطية

يتبين لنا حقيقة الديمقراطية بما قال أهلها عنها، فأهل مكة أدرى بشعابها وللبرهنة على ذلك أقول هناك سلطات ثلاثة هي أعمدة الديمقراطية، السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية.

أما السلطة التنفيذية، فتنبثق من الانتخابات التي تُجرى في كل أربع سنوات، أو خمس سنوات، فتعالوا بنا لنُلقي نظرة عليها للتأكد هل يتمخض منها حكم الشعب بالشعب أم لا، فمن المسلَّم به أن الانتخابات لا يشارك فيها جميع الشعب (أي مائة بالمائة) في أي دولة قطعاً، ولم يقع ذلك في التاريخ، بل ولم يدَّعِ ذلك أحدٌ فيما نعلم، وفي أغلب الحالات لا يتجاوز المشاركون في التصويت خمسين بالمائة، فتسع وأربعون من تلك الخمسين قد يرفضون المترشح الفلاني، ويقبله واحد وخمسون فقط ممن شاركوا فيها، وبذلك يفوز بالرئاسة، فمعنى ذلك أن الذين انتخبوا ذلك الرئيس في تلك الانتخابات هم خمس وعشرون من عموم الشعب لأن نصف الشعب قد قاطعوا الانتخابات، وتسع وأربعون ممن صوتوا رفضوه، فلم يبق إلا خمس وعشرون بالمائة.

ومن ذلك الرئيس المنتخب على تلك الطريقة يتفرع منه الجهاز التنفيذي (الحكومة) لأنه (أي الرئيس) هو الذي يختار أعضاء الحكومة، ويترأس عليها بحجة أن عنده تفويضاً من الشعب في الانتخابات لاختيار الحكومة، فهل الذين انتخبوه وهم خمس وعشرون بالمائة يلزم من كونهم انتخبوا ذلك الرئيس يلزم منه أنهم راضون عن كل فرد من أعضاء حكومته، فإذا كنتُ معارضا لأعضاء الحكومة، أو لبعضهم، فما السبيل إلى تحقيق رغبتي في اختيار أعضاء الحكومة، لا يوجد إجابة على هذا السؤال على الإطلاق، هذا في حق من صوَّت لصالح الرئيس، وأما من لم يشارك في الانتخابات، أوشارك لكنه اختار غير الرئيس الذي فاز فيها، فليس لهم في تلك الحكومة من يمثل إرادتهم في الرئيس ولحكومته، بل إرادتهم قد صُودرت بالأغلبية المزعومة، فهذه حال السلطة التنفيذية، فكما نرى لا تتوفر فيها معايير لتمثيل الشعب في الجهاز التنفيذي، بل معظم الشعب مغيَّب فيها ولم يؤخذ رأيه في شيء من إدارة شؤون البلاد ومصيرها.

وأما السلطة التشريعية في الديمقراطية كما يقولون، فهي البرلمان، فاختياره يتم على نفس طريقة اختيار الرئيس، وفي اختيار البرلمان من العيوب ما مرَّ في اختيار الرئيس،  إذ لا فرق بينهما، هذا من حيث اختيار البرلمان، وأما من حيث ما يُشرِّعه البرلمان من القوانين والنظم، ففيها من الأشكال ما لا يمكن لشخص أن يجادل فيه.

 ويأتي في مقدمة ذلك أن قدرة البشر في معرفة حاجات الآخرين محدودة، فليس بمقدور أحد أن يعرف ما يريده زيدٌ عما يرفضه عمرو إلا إذا صرَّح هو بلسانه، وهذا غير وارد، فليس هناك من البرلمانيين من يستشير الشعب ليعرف ما يريدونه، فإذا كان الذي يضع القوانين لا يعرف ما يريده الشعب، فمن أين يحصل على الشرعية لما يضعه من القوانين، يقولون: إننا نطلب من الشعب كله أن يصوت على القوانين بعد الفراغ من وضعها، فإذا صوتوا بالموافقة، فقد رضوا بها، فيلزمهم القبول، ومن ثَمَّ يجري تطبيقه عليهم.

أقول: حتى لو فرضنا جدلا أن الأغلبية صوَّتت لصالح تلك القوانين، فهل تصويت الشخص على تلك التشريعات التي تزيد على مائتي صفحة مثلا، وتتكون من بنود، وفقرات كثيرة تعنى أنه يرضى عن كل جزئية في تلك القوانين، علماً بأنه لن يقرأه إلا قليل من الناس، ويكون من بين بنود القوانين ما يرضى عنه الشخص، ومنها ما يرفضه، فإذا جاء التصويت عليه، يقال له: إما أن تقبله كله، أو ترفضه كله، وليس له حرية اختيار ما يقبله منها مما يرفضه.

وتزيد السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية إشكالات عديدة منها: أن القوانين في أغلب الدول العريقة قد وُضعت قبل مئات السنين من قبل أناس عاشوا في عصر غير هذا العصر، فكيف لشخص مات قبل مائة سنة أن يعرف حاجات وطموحات أناس في هذا العصر، ومعنى ذلك أن الأحياء محكومون بالأموات في السلطة التشريعية، وأن إرادة الأحياء غير معتبرة في القوانين الحاكمة إلا في الأشياء المستجدة فقط، وهذه معضلة تُفسد عليهم نظريتهم في معارضة الشريعة الإسلامية إذ قالوا عنها: إن هذه الشريعة نزلت قبل أربعة عشر قرناً، فلا تستطيع أن تساير الإنسان المعاصر في تلبية حاجاته، فأنا أقول لكم كمسلم: كيف لإنسان مات قبل مائة سنة أن يعرف حاجة الإنسان المعاصر حتى يضع له تلك القوانين. ونحن نقول لكم: إن الشريعة الإسلامية وإن نزلت قبل أربعة عشر قرناً من الزمن إلا أنها صالحة لهذا العصر، ولكل العصور القادمة لأن الذي أنزل الشريعة هو الذي خلق البشر، ـ وهو علام الغيوب ـ يعلم حاجة الإنسان قبل أربعة عشر قرناً كما يعلم حاجة الإنسان في هذا العصر، وفي العصور اللاحقة، ولهذا وضع شريعة تصلح لجميع الناس في جميع العصور.

 أما أنتم أيها الديمقراطيون فهل من بينكم من يستطيع أن يزعم أن الذي وضع هذه القوانين قبل مائة سنة مثلا كان يعرف حاجة الإنسان في هذا العصر، وفي العصور التي بعده، الجواب قطعا، لا، فهذا هو الفرق بين الشريعة المنزلة، والقوانين الوضعية. وعليه نقول لكم: إن كان لا بد لكم من وضع القوانين لأنفسكم، فمن المفترض أن يتجدد وضع قوانين جديدة عند كل انتخاب في كل أربع سنوات حتى تكون  معبرة عن إرادة الشعب الموجود من الأحياء لا الأموات.

وأما السلطة القضائية في الديمقراطيات فترتبط بالسلطتين: التنفيذية والتشريعية، فهي من حيث الاختيار، وتعيينها تنبثق من السلطة التنفيذية، فالرئيس أو وزير العدل هو الذي يعين القضاة،  فهي من هذه الناحية منبثقة من السلطة التنفيذية، ومن حيث القوانين التي يحكم بها القضاة ترتبط بالبرلمان لأن التشريعات التي تنفذها السلطة القضائية تصدر منه، وعليه فكل الملاحظات التي على السلطة التشريعية والتنفيذية مجتمعة تكون على السلطة القضائية، وتزيد السلطة القضائية عليهما سوءاً بأنها تسير وَفق رؤية أناس ما توا قبل قرون من الأزمنة، وتستمد شرعيتهم منهم.

الديمقراطية بمعناها الحالي غير صالحة للشعوب المسلمة لما يأتي:

أولا: إن الديمقراطية كما سبق بيانها تتضمن الجانب التشريعي، وهو وضع قوانين بشرية، وذلك من لوازمها لأن مهمة البرلمان في الديمقراطيات أن يُشرِّع للناس القوانين التي يتحاكمون إليها، والتشريع في الشريعة الإسلامية لا يصح إلا من الله تعالى، ولا يقبل الله من أحد أن يُشرِّع مخلوقٌ لمخلوق مثله، لأن طاعة ذلك المخلوق بتلك القوانين تأليهٌ له وعبادة من دون الله، وبذلك يكون الواضع للقوانين قد نازع الله في خصيصة من خصائصه، وذلك شرك بعينه، وفي ذلك يقول تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن بالله)، قال ابن كثير: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله وتحاكم إلى غيره من الشرائع  المنسوخة كفَر).

 قد يقول قائل: نأخذ من الديمقراطية ما يناسبنا كمسلمين، فنأخذ منها ما يتعلق بالجانب التنفيذي المتمثل في اختيار الرئيس، والجهاز التنفيذي، ونترك ما يتعلق بالجانب التشريعي.

الجواب: نحن لا نتحدث عن أمور خيالية بل نتحدث عن الواقع المعاش في العالم اليوم فأين الدولة المسلمة التي طبقت الديمقراطية، ثم فصلت الجانب التشريعي عن الجانب التنفيذي، بل إن الدول الغربية التي من أجل توددها نفرض على شعوبنا الديمقراطية لا تَقبل من أيِّ دولة تجزئة الديمقراطية، وذلك في نظرها تلاعب بها، فإذا أقدمت دولة على ذلك وُصفت بأنها دولة غير ديمقراطية، وقد يؤدي ذلك إلى فرض الحصار عليها، ومنع كل المساعدات من الدول الغربية، ومنظماتها، ومن جميع الهيئات الدولية، هذا كله إذا أحسنا الظن بالشعوب المسلمة، وإلا فإن الشعوب المسلمة المغلوب على أمرها هي الأخرى لا تريد إلا الديمقراطية الغربية بحذافيرها، فهي تريد الديمقراطية الغربية على حالها دون تعديل.

ثانيا: إن الوسائل في الشريعة الإسلامية لها حكم الغايات، لهذا ننظر إلى الوسائل الموصلة للديمقراطية، فنجد أنها تتعارض مع الشريعة الإسلامية، ومن ذلك أن الشخص يترشح للرئاسة بنفسه في أول الأمر طمعاً في الرئاسة دون أن يرشحه أحد، وهذا مخالف لهدي النبي r ففي حديث أبي موسى الأشعري t قال: دخلت على النبي r أنا ورجلان من  بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله ـ عز وجل ـ وقال الآخر مثل ذلك فقال r « إنا والله لا نُولِّي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه ». متفق عليه.

ثالثا: ما يقع بين المترشحين وقت إجراء الانتخابات من السب، والشتم والطعن، والتجريح للطرف الآخر، وفيه من الكذب الكثيرُ، وقليل من الصدق، فهذه الطريقة مخالفة لهدي الإسلام، فالواجب في مثل هذا إن كان للإنسان على أخيه ملاحظة، فليقدمها إليه على شكل نصيحة، وأما تعييره بها على الملأ لقصد تشويه سمعته لدى السامعين فلا، بل وفي هذا من المفسدة ما لا يخفى من التباعد والتباغض والتدابر بين أفراد المجتمع.

رابعا: في وقت الانتخابات تُهدر الأموال، وتُصرف في غير وجهها، وقد تصل في البلدان المتقدمة إلى المليارات، كلها تصرف في الدعايات والرشاوى لتلميح صورة المترشح، بل قد رأينا في انتخابات الصومال عام ألفين وستة عشر أن شخصا واحدا دفع ما يزيد على مليون دولار رشوة من أجل أن يكون عضوا في البرلمان، فهل نتوقع من ذاك العضو أن يعمل لصالح الأمة في ذاك البرلمان.

وفي الختام إن الشريعة خالية من كل تلك العيوب في الديمقراطية، فنحن إن أخذنا التشريع من الله سَلِمنا بذلك من تلقي التشريعات من الناس مثلنا كما هو الحال في الديمقراطية كما نسلم بها من شطط واضعي القوانين لجهلهم عن حال من يشرع لهم من البشر، فالله تبارك وتعالى المنزل للشريعة هو من خلق البشر، فهو يعلم ما يصلح لهم إلى قيام الساعة، كما أنه ليس في الشريعة تلك الكِذبة التي في الديمقراطية من حكم الشعب نفسه بنفسه بل الشريعة تجيز انتخاب الرئيس أو الحاكم من قبل فئة من الشعب، فإن أمكن أن يكون هؤلاء من أهل الحل والعقد فهو المتعين، وإلا فيصح انتخابه  من قبل مَن أمكن من الشعب.

إن من لوازم الديمقراطية العلمانيةُ التي تحدثنا عنها، فالديمقراطيون يريدون حصر الإسلام في الشعائر التعبدية دون أن يكون له دور في إدارة شؤون الدولة، والشريعةُ الإسلامية لا تقبل التجزئة بين عقيدتها وشريعتها، فإما أن تقبلها كلها، أو ترفضها كلها، فلا يصح لمسلم أن يقبل بعضاً منها كالصلاة، والصوم، والزكاة والحج، والنكاح، ثم يرفض أحكام الشريعة في المعاملات المالية، أو إقامة الحدود الشرعية بين الناس في الجنايات، فالتجزئة بين أحكام الشريعة تعني بالضرورة في نظر المُجزئين أن الله قد أصاب في بعض تشريعاته فيما يتعلق بالشعائر التعبدية، وأخطأ فيما عدا ذلك، فهذا من لوازم فعلهم، حتى ولو لم يقولوه بلسانهم، ومن كان كذلك فليس بمسلم، وإن صلى وصام، وادعى أنه مسلم، بل هو في ذلك متابعٌ لليهود في إيمانهم ببعض الكتاب، وكفرهم ببعضه الآخر، وقد أوعدهم الله على صنيعهم ذلك بالعقاب الشديد في قوله:{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: الآية: 85].

 إن الشريعة الإسلامية استطاعت أن تلبِّي جميع حاجات البشر في جميع العصور والأزمنة، وأن تُوفِّق بين حق الله وحق العبد، وبين روح العبد وجسده، وبين فرديته وجماعته، وبين دنياه وآخرته، فلا بد من إخضاع ذلك كله لشرع الله امتثالا بقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة: 208].

وبذلك امتازت الشريعة الإسلامية على غيرها من النُظم الوضعية التي وضعوها وفق تصوراتهم القاصرة المحدودة أن القوانين تجاهلت الجانبَ الروحيَّ، والأخلاقي في بناء الفرد والمجتمع، فتقدَّمَ الإنسانُ عندهم مادياً لكنه تأخر روحياً حتى نزل إلى مستوى البهائم في شهواته، فالإنسان عندهم الآن عرضة للانقراض.

بقلم الدكتور/ عمر إيمان أبو بكر

الديمقراطية