ما يعني أن تعيش في الغرب

ما يعني أن تعيش في الغرب

هناك من الإخوة الكُتَّاب مَن هو أجدر مني في الكتابة في هذا الموضوع ممن يعيشون هناك، ويشاهدون ما لم نشاهده نحن، وعزائي في هذا أن الشخص المقيم هناك قد تتبلد شعوره من كثرة الاحتكاك والاختلاط بالقوم، فالمناظر القبيحة التي كانت تنفر نفسه منها عند قدومه الأول تصير بعد مدة مألوفة لديه، فلو كتب عنها اليوم فإنه لا يستطيع أن يصورها للقارئ كما هي، فيكون السامع أقدر منه على الحديث عنها، وقد يدرك السامع بسمعه ما لا يدرك الناظر بنظره، قال بشار بن برد: (… والأذن قد تعشق قبل العين أحيانا).

وهذا المقال مساهمة مني بجزء يسير من الجهد لتصوير المأساة التي تعيشها كثير من الأسر المسلمة التي تستوطن الغرب، والذي دعاني إلى كتابة هذا المقال في هذا الموضوع ما كنت ألاحظ من بعض زملائي ومعارفي عند ذهابهم إلى أوربا وأمريكا من الفرحة والسرور، وكأنهم بُشِّروا بدخول جنة الدنيا، وأنهم بحصولهم على تأشيرة الدخول إلى تلك البلاد ألقوا متاعب الحياة من وراء ظهورهم، ثم أتفاجأ بعد سنوات من إقامتهم هناك مِمَن مروا عليَّ في رجوعهم إلى البلاد زائرين، تعلوهم الكآبة على وجوههم، رجعوا إلينا بغير الوجه الذي ذهبوا.يشكون من عصيان الأولاد، وتمرُّد زوجاتهم عليهم،

إن الشعوب المضطهدة التي تعيش في الضنك من ويلات الحرب، وما يستتبع ذلك من المجاعات، والأمراض، والتشرذم لا شك أنها تفكر مليا في طريق الخلاص من ذلك، فالشعوب في تلك الأوضاع المُزرية لديها رغبة جامحة في الوصول إلى أوبا، أو أمريكا حيث الأمنُ، والاستقرار، والوظيفة، والتعليم، فلأجل الوصول إلى هناك تُغامر بحياتها بركوب كل المخاطر، وإن أفضى بها إلى الموت في الصحاري الليبية جُوعاً وعطشاً، أو الغرق في البحار، أو الوقوع في شرَك العصابات الإجرامية التي تُتاجر بأعضاء البشر، وغير ذلك من المخاطر الجسيمة.

 أقول في نفسي لو أن أمريكا جاءت بسُفن عملاقة إلى ساحل الصومال وغيره من البلدان الأفريقية، ثم قالت: من يرغب في العيش في أمريكا، فليصعد إلى إحدى هذه السُفن الراسية في الميناء لظننت أنه لا أحد يتخلف عنها حتى الذين لا يريدون الإقامة هناك يقولون نذهب إلى هناك فترة من الزمن ريثما نحصل على الجواز، ثم نرجع إلى بلادنا لنتمكن بذلك من حرية التنقل بين مدن العالم بكل يسر وسهولة، وبهذه الطريقة يمكن لأمريكا أن تستولي على البلاد من دون حرب.

بل لا أكون مبالغا إذا قلت: لو أن الدول الغربية اشترطت التنصر على من يتقدم بطلب الدخول إلى بلادها، والإقامة فيها لوُجد أيضاً من بين المسلمين من يتخلَّى عن إسلامه لأجل ذلك، أو على الأقل يتظاهر بالتنصر، لاسيما الشباب الذين لا يعنيهم سوى التمتع بالحياة على شكلها الحالي في الغرب، فهم يذهبون هناك للتحرر من كل الثوابت من الدين، والعادة، والأعراف ليكونوا جزءاً لا يتجزأ من حياة الغرب،.فهؤلاء سرعان ما ينتهي بهم المطاف إلى مستنقعات الرذيلة من المخدرات، والجريمة المنظمة بجميع أشكالها.

فمن الصعب أن تُقنع هؤلاء بالعدول عن الخوض في تلك التجربة، ومن حاول معهم نظروا إليه باشمئزاز، واعتبروه إنساناً حاسداً لا يريد لهم الخير في مستقبلهم، والذي يَزيد الأمر تعقيدا أنك إذا نصحته بعدم الذهاب إلى هناك يقول لك: ما ذا أصنع هنا، أنا ليس عندي مسكنٌ آوي إليه، ولا مصدرُ رزق آكل منه، ناهيك عن الحصول على وظيفة، وهذا المصير الذي أعيشه أنا هو نفس المصير الذي ينتظر أولادي، فمدرستهم الآن الشارع، فلا تعليم لهم، ولا رعاية صحية، بل ولا يلوح في الأفق أيُّ تحسن لوضعهم في المستقبل.

وكأنه بذلك يقول لك بلسان حاله: إذا لم تستطع أيها الناصح المساهمةَ في حلِّ مشاكلي، فدعني، أفعل في شأني ما أريده لبناء حياتي، فكلما رأى رجلاً عائداً من هناك تلوحُ منه علامة السعادة، ازدادت رغبتُه في الذهاب إلى تلك البلاد إذ يرى بأم عينه ذلك الرجل، وهو يتمتع باحترام الآخرين له لكونه من رعايا تلك الدولة العظيمة، ويحمل جنسيتها، فيحظى بحمايتها له في كل بلد هو فيه، وهذه النظرة السطحية إلى مظهر ذلك الرجل الزائف تَصرِفُه عن النظر فيما وراءه من المآسي التي قد يعاني منها ذلك الرجل من التفكك الأسري وضياع الأولاد.

أقول ذلك لأننا رأينا بعض معارفنا ممن ذهب بالأمس القريب إلى أمريكا، أوأوربا رجعوا إلينا بأولاد، هم في الظاهر من البشر، ولكنهم في حقيقتهم ووحوش متمردة على كل القيم والثوابت، والمرجعُ عندهم في كل القضايا ما تمليه عليهم عقولهم، فما قبلته فهو المقبول، وما رفضته فهو المرفوض، فالحرام عندهم كالحلال، والكفر كالإيمان، وعلى ذلك يمارسون كل ما تهوى نفوسهم دون أن يكون عليهم سلطان من أحد لا من الله، ولا من المجتمع، فهم وحدهم في نظرهم من يصنع المستقبل بأيديهم، ومن يعارضهم في ذلك اتهموه بالتخلُّف والرجعية، وإذا أردت الوقوف على التشخيص الدقيق لهؤلاء فعليك قول الباري (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة).

والوالد قد لا يدرك تلك الخطورة إلا بعد خروج الأمور عن سيطرته، ولا يبقى بيده أي صلاحية لتغيير الوضع القائم، فأولاده يستمدون استقلاليتهم عن أبيهم من الدولة، وهي التي تحميهم من عُنف الوالدين فيما زعموا، وهذا الوضع الذي وصل إليه هؤلاء لم يأت من فراغ، ولم يحصل عن صُدفة، بل هو أمر قد خُطِّط له بإحكام، ومن ظن أن دولةً في الغرب تفتحُ لك باب بلدها بمصراعيه لتحتضنك أنت وأسرتك، ثم تمنحك كل تلك المزايا من المسكن الفاره، والعيش الرغيد، والتعليم المجاني، والرعاية الصحية مع تساوي المواطنين الأصليين في كل الحقوق، فهو إنسان واهم ينظر إلى الأمور بنظرة سطحية.

بل الحقيقة المرة هي أن تلك الدول الغربية تريد أن تتسلم منها كل مساويها في صورة المحاسن مقابل أن تتخلى أنت عن مبادئك وقِيَمَك على أنها العائق عن اللحاق بالركب المتقدم، وبهذه المعادلة غير المتكافئة تسير الأمور، وتتفاقم الأحداث يوماً بعد يوم حتى تصل باللاجئين إلى مرحلة يصعب العودة منها، فأول من يدفع ثمن تلك الغربة، ويكتوي بنارها، هو والد الأولاد، فإنهم يتمردون عليه كما تمردوا على شرع الله، فيجني ثمار الذهاب بهم إلى بلاد الكفر، فلو قُدر أن احتاج إليهم للمساعدة في أخريات حياته قالوا له: عليك بدار العجزة، فإن حقك مكفول فيها من الدولة، ودعنا نحن نستمتع بحياتنا، فلا تعكر علينا برعاية شؤونك.

وبعد تلك الصدمة التي أُصيبت به من أولاده يعود إلى زوجته ليستأنس بها من وحشة، ويستكثر بها من قلة، وقد كانت في قديم الزمان عندما كانوا في بلدهم الأصلي طوع أمره، فيتفاجأ بها إذ يجدها هي الأخرى قد تأسَّدت عليه، وصارت في البيت هي الآمرة والناهية، وقد أحاطته علماً أن من صلاحيتها في البلد الجديد أن تَطرده من البيت، وتَحرِمَه حتى من رؤية أولاده إذا لم يقبل الوضع الجديد من الهيمنة عليه وعلى أولاده، وإلا فيتم حسم أمره بمجرد رفع سماعة التلفون لاستدعاء الشرطة لإخراجه من البيت على جناح السرعة إلى غير عودة إلا بإذنها.

 وإذا رضي بالوضع الجديد يكون كالوديعة في البيت يكتفي بمشاهدة ما يجري حوله دون أن يكون له حق الاعتراض، فإن حدثتْه نفسُه يوماً بأن يطالبها بالقيام بخدمته في بعض الأمور، قالت له: هل أنت معاق، فيقول لها: لا، فتقول له: فما يمنعك من القيام بخدمة نفسك، فيقول لها: لأنك زوجتي، والزوجةُ عليها أن تخدم زوجها، فتقول له: إنك لم تستوعب الرسالة على الوجه المطلوب حتى الآن، ولكني أقول بحكم العشرة السابقة: عليك القيام بشؤون نفسك في القليل والكثير، وامسح من ذاكرتك أن واجب الزوجة أن تخدم زوجها، فتلك عادات عفى عليها الزمن.

وعندئذ يخلو الرجل مع نفسه للتفكير فيما عسى أن يفعله لكنه يعلم مسبقا أن الخيارات أمامه محدودة لأن عامل السن الذي وصل إليه قد حسمه، فأما الخيار الأول فهو أن يقبل هذا الوضع الجديد دون أن يكون له حق الاعتراض على ما يجري كما أشرنا إليه سابقاً، ثم عليه أن يُهيِّئ نفسه إن تقدم به العمر أن يذهب إلى دار العجزة ليقضي فيها بقية حياته مع المنبوذين.

الخيار الثاني: أن يعود أدراجه، فيعود إلى البلد الذي جاء منه مُخلِّفا وراءَه أسرته من زوجة وأولاد ليعيش مع أبناء عمومته، فإن كان قد أساء إليهم أيام غربته، فلم يصلهم بالمعروف لا يكون وضعُه فيهم بأحسن من وضعه هناك، فلا يكون مُرحَّبا به عندهم لأنهم سيقولون له جفوتنا يوم كانت الدنيا مقبلة عليك، فلم تتذكرنا، ثم لما ضاقت بك الحال، وعجزتَ عن القيام بشؤون حياتك تأتينا تاركاً أولادك وزوجتك الذين أفنيت عمرك في خدمتهم، فأين هم؟ فلم لا يعتنون بك كبيراً كما اعتنيت بهم صغاراً، فهذا الكلام يزيد الشيخ حزناً على حزنه السابق لأن أبناء عمومته غير متصورين أن أبناءه قد تخلوا عنه ونبذوه.

وهذا الوضع المأساوي لا ينطبق على كلِّ من هاجر إلى تلك البلاد، فهناك بعض الأسرة لا زالت متماسكة بفضل التربية السابقة، وبالجهد الذي بذلته في المحافظة على أولادها، لكن حتى هذه الأسر مع قلتها محفوفة بالمخاطر، فهي إن نجحت في المحافظة على الجيل الأول من أولادها، فإنه يكون من الصعب  المحافظة على الجيل الثاني، ولهذا فإن الدول الغربية عينُها دائماً على الجيل الثاني وما بعده من الأحيال فإنه في الغالب يذوب في تلك البيئة كما حصل للمسلمين في هجرات سابقة.

 فأما كبار السن فهم في كل الحالات مُعرَّضون للمخاطر حتى مَن رَزقهم الله أولاداً بررة، فطريقة العيش هناك لا تناسبهم، فالكل يخرج في الصباح الباكر للعمل، أو التعليم حتى الأطفال مهما كانت أعمارهم، لهم حضانة خاصة بهم، فلا يبقى مع كبير السن في البيت أحد، فيقاسي الأمرَّين: الغربة والمرض الذي يصاحب عادة من كان في مثل عمره، فإذا عاد الجميع في المساء رجعوا وهم مرهقون جداً، فيأوي كل واحد منهم إلى مأواه ليخلد للراحة، فلا أحد منهم يجد وقتاً للحديث مع كبير السن، فيعيش وحيداً حتى في حال وجودهم في البيت.

ليس اللوم على من خاض تلك التجربة أول مرة دون علم بمآلاتها،  ولكن اللوم على أولئك الآباء الذين هم على قدر من المعرفة والتربية الصالحة، ثم يذهب بأسرته إلى هناك على أمل أن يأخذ من خيراتهم، ويسلم من مخازيهم، ولكن لم يتساءل كيف الطريق إلى تحقيق تلك الأمنية في أرض الواقع، وقد رأى بأم عينه ما حلَّ بغيره ممن كانت أمنيتُه كأمنيته، فلم يتحقق له منها شيءٌ، فهاهم الآن يعضُّون بأصابع الندم على ما أقدموا عليه من الخوض في تلك التجربة غير مأمونة العواقب، وقد أثبتت التجربة فشلها على نطاق واسع، فهذه الأمنية من هذه الفئة شبيهة بأمنية أناس أخبَر عنهم النبي r في آخر الزمان حينما ينحسر نهرُ الفرات عن ذهب، فيتقاتل الناس عليه، فيموت من كل مائةٍ تسعٌ وتسعون،فيقول كل رجل من المائة، عسى أن أكون أنا الفائز بالذهب، فيدخل في القتال، فلا يزال يقاتل حتى يقتل.

وتلك المشكلة لن تكون منحصرة في هؤلاء المغتربين، بل تتعدى إلينا، لأن بعضاً من هؤلاء يعودون إلى البلد فراراً بأولادهم من الضياع، ولكن بعد فوات الأوان، وبدلاً من أن ينصلح أولادُهم بصحبة أبناء البلد يفسُد بهم أبناء البلد، إذ عندهم من المعرفة بطرق الفساد ما ليس عند أبناء البلد.

ومن نجا منهم من الضياع، وتعلَّم رجع إلينا، وهو يحمل مؤهلات علمية عُليا، فينقل إلينا نمط الحياة الغربية بأمانة، ويريد أن يطبقها على المجتمع حرفيا بحجة أن الذين جاء منهم هم أهل حضارة وتطور، فعلى المجتمع أن يقتدي بهم إذا أراد التقدم إلى الأمام، فهو صاحب رسالة، ويلقى دعماً من تلك البلاد على نشر تلك الأفكار، ولو كانت تتعارض مع قيم الإسلام.

وبما أن سنة الحياة مبنية على التدافع فلا بد من تكاتف الجهود في إصلاح هؤلاء، وهم في غربتهم عن طريق تفعيل دور الدعاة في تلك البلاد، وقد تحقق على أيديهم خير كثير للجاليات الإسلامية، وكذلك تأسيس مراكز إسلامية يُستَوعب فيها أبناء الجالية الإسلامية هناك لتبقى متماسكة، ثم تأسيس جمعيات خيرية تُعنى بحل مشاكل الأسر الفقيرة في تعليم أبنائها حفاظاً عليهم من الضياع، ثم تثقيفهم، وتوعيتهم من خطورة البقاء في تلك البلاد حتى لا يذوبوا فيهم كما ذاب غيرهم.

والإسلام ينتشر في أوربا أكثر من أي دين آخر، وذلك بعد الله بفضل الجهود المبذولة من قبل تلك المراكز الإسلامية حتى إنك لتسمع الصيحات من أهل تلك البلاد أن الإسلام يهدد النسيج الاجتماعي فيهم، وأن أوربا ستتحول بعد خمسين سنة إلى أكثرية إسلامية، وهذا الكلام قد لا يكون بعيداً من الصواب، وإن كان قصد هؤلاء من تلك الصيحات هو تسليط الضوء على الإسلام، والتحذير منه، للتضييق على أهله، وهذا هو الحاصل، فليس أوربا اليوم مثل أوربا أمس التي كانت معروفة بالتسامح وحرية الاعتقاد وعدم التدخل في شؤون الشخص الداخلية، فهم في الوقت الذي يسمحون بارتكاب كل الموبقات يضيفون ذرعاً من خمار تضعه المرأة المسلمة على رأسها، فأين الحريات التي كانوا ينادون بها.

والذي أريد أن أخلص إليه في هذا المقال المقتضب أن نعتبر بغيرنا، فالعاقل من وُعظ بغيره، فليس من العقل أن نواصل السير في طريق أفضى بمن سبقنا إلى طريق مسدود حتى رجعوا من تجربتهم تلك بخفي حنين، فلا دين ولا دنيا (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).

بقلم الدكتور/ عمر إيمان أبو بكر

للتحميل اضغط هنا