المقال الثاني: في كفر أهل الكتاب من اليهود والنصاري

 كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى

وقبل الشروع في مقصود البحث أحب أن أنبه على أن كفر من لم يؤمن بالنبي r بعد بعثته من أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم معلومٌ من الدين بالضرورة، ولا يدفع عنهم الكفرَ إيمانُهم بأنبيائهم، والتزامُهم بكتبهم السابقة لأن الله نسخ شرائعهم بهذا الكتاب المنزَّل على محمد، فقال عزَّ مِن قائل: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}[ آل عمران الآية: 85].

وقد أجمع المسلمون على نسخ جميع الشرائع السابقة بشريعة محمد بن عبد الله r، وبذلك قد أوقف الله العمل بكل الكتب السابقة، فلا يقبل من أحد اليوم أن يدين بدين غير دين الإسلام بعد بعثة النبي r قال تعالى:{إن الدين عند الله الإسلام) [آل عمرن الآية: 19].

قال ابن حزم في مراتب الإجماع: «اتفقوا على أن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسولُ الله إلى جميع الجن والإنس إلى يوم القيامة، وأن دين الإسلام هو الدين الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ لجميع الأديان قبله، وأنه لا ينسخه دين بعده أبداً، وأن من خالفه ممن بلغه كافرٌ مخلَّد في النار أبداً»([1]).

فكلُّ رسالةٍ من الرسائل السماوية السابقة كانت خاصة بقوم من الأقوام إلى أن جاء الدور على نبينا محمد r، فجعل الله رسالتَه خاتمةً للرسالات السماوية، وعامة لجميع الناس، فعلى الجميع من كل الأمم أن يضعوا الكتب الأخرى السماوية جانباً، ويتفرغوا للعمل بهذا الكتاب المهيمن عليها جميعاً، فكل حُسن في الكتب السابقة موجود في هذا الكتاب العزيز، وهو كتاب محفوظ من التحريف والتغيير وعداً من الله قطعه على نفسه، بل إن هذا الكتاب يبين لأهل الكتاب ما وقعوا فيه من الاختلاف بسبب تحريفهم لكتب الله قال تعالى:{إن هذا القرآن يقصُّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون}[ النمل الآية: 76].

قال ابن كثير:«جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملَها، وأعظمها، وأحكمها حيث جمع فيه محاسنَ ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأمينا، وحاكماً عليها كلِّها»([2]). وذلك مقتضى كونه r مبعوثاً إلى الناس كافةً كما في قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً).

ذكر الأدلة الدالة على كفر أهل الكتاب

الدليل الأول: إن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لم يكونوا على دين صحيح بل كانوا كفاراً قبل بعثة النبي r لأنهم حرَّفوا، وبدَّلوا دينهم، وضيَّعوا فلم يبق منه ما يصح أن يُتعبد الله به، ولبيان ذلك أقول: إن الله تعالى بيَّن في كتابه الكريم تحريف اليهود لكثير من آيات التوراة، واستبدالها بآرائهم المبنية على أهوائهم، وفيهم نزل قوله تعالى:{فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل مما يكسبون} [ البقرة الآية: 76] وقال تعالى فيهم: {يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروابه…} [المائدة الآية: (14].

ومعلوم من الدين بالضرورة أن التحريف لكتب الله المنزلة على الرسل كفرٌ صريحٌ، لأنه (أي التحريف) يشتمل على التكذيب والتشريع معاً، وكل واحد منهما كفر بذاته لأن المُحرِّف قبل أن يُقدِم على التحريف يكون قد أنكر النص الذي يريد تحريفه لكونه لم يتناسب معه حسب مصالحه وهواه، ثم إنه بعد التحريف وضع آراءه مكان النص الإلهي، وهو كفر آخر لأن ذلك سيكون له ولمن بعد شرعاً يُعمل به على أنه وحي منزل من الله، وليس هناك كفر أكبر من تسوية تشريع المخلوق بشرع الخالق، قال تعالى:{وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}[ ال عمران::87].

قال أهل العلم: إن التقوُّل على الله أشدُّ كفراً من الإشراك بالله، ولهذا جاء التقول على الله بعد الإشراك من حيث الترتيب في العِظَم في قوله تعالى:{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [ الأعراف الآية: 33].

قال العلامة رشيد رضا في هذه الآية: « القول على الله بغير علم هو أعظم هذه الأنواع من أصول المحرمات الذاتية التي حرمها الله تعالى في دينه على ألسنة جميع رسله، فإنه (أي القول على الله بغير علم) أصل الأديان الباطلة، ومنشأُ تحريف الأديان المحرفة»([3]).

وأما النصارى فأمرهم في الكفر أوضح من اليهود لأنهم أضاعوا الإنجيل المنزل على عيسى، وقد استحفظهم الله إياه، ثم إنهم لم يقفوا عند تضييعه، بل اعتاضوا عنه بغيره من الأناجيل التي هي آراء الرجال واجتهاداتهم، فوضعوها مكان الإنجيل المنزَّل على عيسى عليه السلام، وهذا هو التبديل، وهوأشد من التحريف لأن التحريف يختص ببعض الآيات لا بكل الكتاب، وأما التبديل فإنه يتعلق بكل الكتاب، واستبداله بغيره، فيكون التبديل شرعاً عاماً لكل الأجيال بعده.

ويتبين بذلك أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لم يكونوا قبل بعثة النبيr على دين صحيح، بل كانوا كفاراً بالتحريف والتضييع، فازدادوا بإنكارهم للنبي محمد r كفراً على كفرهم، والدليل على ذلك قوله تعالى فيهم: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين}[ المائدة الآية: 68].

وكان الأجدر بأهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يكونوا أول الآمنين بالنبي محمد r ليضعوا بذلك حداً لكفرهم الذي لزمهم لفترة طويلة، ولم يستطيعوا الخروج منه لأن مِن لوازم توبة النصارى إعادة الإنجيل الذي أضاعوه، كما أن على اليهود إرجاع جميع النصوص التي حرفوها في التوراة، وليس ذلك بمقدور أحدٍ منهم في هذا العصر، فالسبيل الوحيد في الخروج من ذلك الكفر هو المبادرةُ إلى الإيمان بالنبي محمد r المبعوث لهم ولغيرهم من أمم الأرض، وبذلك يغفر الله لهم جميع ما اقترفوه من الذنوب بأنواعها فيكونان كبقية الكفار إذا أسلموا {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} [الأنفال الآية: 38].

الدليل الثاني على كفرهم: إنكارُهم رسولاً من رسل الله، وهو محمد r

أجمع علماءُ الإسلام على كُفر من أنكر رسولاً من رسل الله أياً كان لأن إنكار واحد منهم كإنكار جميعهم، فلا يصح التفريقُ بينهم بإيمان بعضهم، والكفرِ ببعضهم الآخر، ومن فعَل ذلك صار كافراً كُفرا مُخرِجاً عن الملة لأنه بذلك يكون قد أخلَّ بركن من أركان الإيمان الذي هو الإيمان برسل الله جميعاً، قال تعالى:{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله}[البقرة الآية: 285].

فلو أن مسلماً من أمة محمد r أنكر رسولاً من رسل بني إسرائيل كموسى أو عيسى مثلاً، فقال: لا أومن بأن موسى كان رسولاً من عند الله يصير بذلك كافراًٍ بإجماع المسلمين، فكيف يعقل أن نكفر نحن إذا أنكرنا أحدا من أنبيائهم، ولا يكفرون هم إذا أنكروا نبينا محمداً r فهذا غير مقبول عقلا ولا شرعا، وعلى هذا فاليهود والنصارى إن أنكروا نبوة نبينا محمد r فإنهم يكفرون بذلك إجماعاً، قال تعالى:{إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يُفرِّقُوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا . أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً}. [ النساء الآية: 150/151].

فإذا وجب علينا نحن المسلمين أن نؤمن بجميع الأنبياء السابقين مع أننا لم ندرك واحداً منهم، فكيف لا يجب على اليهود والنصارى أن يؤمنوا بنبينا محمد، وقد أدركه أجدادُهم كما هو الشأن في جماعة كثيرة من بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة ممن كانوا يجاورونه في المدينة، ومن لم يجتمع منهم به بلغتْهم دعوتُه عن طريق أتباع النبي r من دُعاة الإسلام، فقامت عليهم الحجة بذلك.

الخلاصة: إن من لم يؤمن بالنبي بعد بعثته من اليهود والنصارى كفار لأنهم جميعاً يُنكرون نبوة النبي r مطلقاً، ولا يرفع عنهم ذلك الكفرَ إيمانُهم بجميع الأنبياء السابقين ما لم يؤمنوا بالنبي محمد r.

الدليل الثالث على كفرهم: جحدُهم النبي r بعد قيام الحجة عليهم بمعرفتهم إياه باسمه ووصفه.

إن الله عرَّف اليهود والنصارى بالنبي r إذ وصفه لهم في كتبهم المنزلة إليهم وصفاً يتميز به عن غيره حتى لا يترددوا في الإيمان به إن هو بُعث فيهم، فقد كانوا يعرفونه كمعرفتهم لأبنائهم. قال تعالى:{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}[ البقرة الآية: 16] والرسول مذكور عندهم في التوراة والإنجيل باسمه ووصفه قال تعالى:{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}[ الأعراف الآية: 157].

وقد أخذ الله من جميع الأنبياء الميثاق أن يؤمنوا هم وأتباعُهم بالنبي محمد r إن هم أدركوا زمانَه، قال تعالى:{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) [ آل عمران الآية: 81].

 فجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم كانت تبشر أقوامهم بمقدم النبي الأمي محمد r، من آدم إلى عيسى ابن مريم الذي هو آخر أنبياء بني إسرائيل ليس بينه وبين نبينا نبي آخر، فقد بشر عيسى بالنبي محمد r فقال فيما حكى الله عنه:{وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديَّ من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعده اسمه أحمد فلما جاءهم بالبيات قالوا هذا سحر مبين} [ الصف الآية: 6].

وكان اليهود والنصارى أولى الأمم بالإيمان بالنبي r لمعرفتهم إياه قبل مجيئه، لذا فقد كانوا ينتظرون خروجه بفارغ الصبر ظناً منهم أنه سيكون من نسل بني إسرائيل، فقد كانوا يستفتحون به على الأمم الأخرى، ولكن لما بعث فيهم وعرفوا أنه من غير سلالة بني إسرائيل أنكروا نبوته لغلبة الحسد عليهم، فجحدوه عناداً، وهم يعلمون أنه رسول من الله حقاً قال تعالى:{ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [ البقرة الآية: 89].

    ولم يكتفوا بعدم اتباعهم للنبي r بل زادوا على ذلك بأن كتموا نعته في كتبهم عن الأمم الأخرى، وفيهم قال تعالى:{وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}.وهذا منهم تنصُّلٌ من كل العهود والمواثيق التي أخذ الله بها عليهم أن يبينوا للناس الحق الذي في كتبهم، ولا يكتمونه، قال تعالى:{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون}[آل عمران الآية: 187] وتَنكُّرُهم لتلك العهود يضاف إلى تاريخهم الأسود من العناد، واختيارهم للضلالة على الهدى عبر القرون.

وهذا الموقف من اليهود على وجه التحديد من معاداة النبي r لكونه من غير بني إسرائيل لم يكن محصوراً في جيل من الأجيال بل كان هو المتوارث عنهم عبر التاريخ، يوصي الأولُ منهم لآخرهم حتى فني عليه كبيرُهم، وشاب عليه صغيرُهم.{وقالواكونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}[ البقرة الآية: 135].

  وعلى الجميع من دعاة الإسلام أن يَعُوا هذه الحقيقة، ويضعوها نصب أعينهم عند دعوة اليهود إلى الإسلام حتى لا يُرهقوا أنفسهم بما لا طائل تحته، ويتكلفوا بإيجاد أجوبة على إشكالاتهم لمحاولة إقناعهم، فإنك مهما أتيت لهم من البراهين والشواهد على صدق النبي r في دعوته، فإنهم لم يؤمنوا بهذا الدين، قال تعالى:{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض}[ البقرة الآية: 145].

ثم إنه ليس صحيحاً كل ما يطرحونه من الإشكالات على الإسلام مما يزعمون أنها تقف في وجههم، وتصدُّهم عن الإيمان بالنبي محمد r بل هي في الحقيقة أمور مفتعلات ليتذرعوا بها في رفض دعوته، لأنهم يعلمون أنهم بإيمانهم بالنبي محمد r يتحولون إلى تابعين بعد أن كانوا متبوعين، ولهذا يرفضون دعوته، وفي ذلك يقول تعالى:{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}.

الدليل الرابع على كفرهم: قولُهم إن دينهم الذي هم عليه يمنعهم من الاعتراف بنبوة محمد r وإعراضهم.

إن أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد أخذوا على أنفسهم عهداً أن لا يُؤمنوا لنبي مبعوث بعد عيسى بحُجَّة أنهم على دين، فلا ينتقلون منه إلى غيره، وقد أخبر الله عنهم ذلك في قوله:{وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل إلينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين}[ البقرة الآية: 91]. وقول الله: (ويكفرون بما وراءه) أي بمن بعده، والمقصود هو محمد بن عبد الله r .

 وهذا الموقف منهم كفر آخرُ مضافٌ إلى كفرهم السابق لأنهم بذلك كذَّبوا ما أمرهم الله به في الوحي المنزل إليهم من وجوب الإيمان بالنبي محمد r إذا أدركوه، لكنهم بدلاً من ذلك افتروا على الله فقالوا: إن الله هو الذي أمرهم أن لا يؤمنوا بعد نبيهم نبياً آخر، وأنه هو الذي عهدلهم بذلك أن لا يؤمنوا لرسول من الرسل خارج أنبياء بني إسرائيل ما لم يأت لهم من المعجزات على مزاجهم، ولم يكن طلبهم بمزيد من المعجزات الدالة على صدق النبي محمد r لقصد الهداية، وإنما لتعجيز النَّبي بها لدليل أن تلك المعجزات التي يطلبونها الآن من محمد r قد طلبوها من أنبيائهم، وقد أعطاهم الله إياها على ألسنة أنبيائهم، فلم يقبلوها منهم، ولو كانوا صادقين في دعواهم لصدقوا لأنبيائهم في معجزاتهم تلك، وفي ذلك يقول تعالى:{الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين}[ آل عمران الآية: 183].

وفي قوله تعالى: (فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) دليل على كفرهم حتى بأنبيائهم إذ لوكانوا مؤمنين بهم لما أقدموا على قتلهم، ومعلوم أن قتل الأنبياء أكبر أنواع الجحود في تاريخ الديانات السماوية.

و قد تبين كذب المنكرين بالنبي بما قال من آمن من اليهود والنصارى بالنبي حيث أخبروا عنهم أنهم كانوا يعرفون محمداً قبل بعثته، وهو موصوف في كتبهم، والله قد أمرهم بالإيمان به، وعلى ذلك آمنوا به، وصدقوه كعبد الله بن سلام، فكافأهم الله على ذلك بأن أعطاهم أجرين: أجر الإيمان بكتبهم السابقة، وأجر إيمانهم بالنبي r قال تعالى:{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به  مؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنما كنا من قبله مسلمين.أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون}[ القصص الآية: 54].

وقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب}[ آل عمران الآية: 199].

كيف يصح لهم أن يقولوا إننا لا نؤمن إلا بأنبيائنا، وأن الله هو الذي أمرهم بذلك مع أن القرآن الكريم المنزل من عند الله مليء بالآيات التي تدعو أهل الكتاب إلى الإيمان بالنبي r عموماً وخصوصاً، ومن ذلك قوله تعالى:{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير . قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويهديهم إلى صراط مستقيم}[المائدة الآية: 16].

والمراد بقوله تعالى: (رسولنا) هو محمد r قطعاً، ثم إن من أدل الدلائل على صدقه أنه r يبين لهم ما كتموه من المسائل والأحكام عن الناس في كتبهم، فأظهرها القرآن الكريم، وفي ذلك دلالة على أن القرآن من عند الله إذ ليس لمحمد r سبيل إلى معرفة ما عندهم في كتبهم إلا من طريق الوحي قال تعالى:{إن هذا القرآن يقصُّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} [ النمل الآية: 76].

وهناك آيات عامة تنادي جميع الناس إلى الإيمان بالرسول محمد r، ويدخل فيهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأنهم من جملة الناس قال تعالى:{يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً}[النساء الآية:170].

الدليل الخامس على كفر أهل الكتاب: إنكارهم آيات القرآن الكريم التي تدعوهم إلى الإيمان بالنبي r

إن الله تعالى ـ وهو أحكم الحاكمين ـ حكم على أهل الكتاب بالكفر لكونهم جحدوا آيات الله في كتابه المنزَّل على نبيه محمد r فقال تعالى:{قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون}[ آل عمران الآية: 98].

والمراد بآيات الله: الآيات القرآنية، ولا يمنع أن يدخل معها جميعُ الحجج، والمعجزات، والدلائل الدالة على صدق النبيr تبعاً، وهذا نصٌّ صريحٌ في كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى لكونهم جحدوا آيات الله، كذلك من الآيات المُصرِّحة بكفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى قوله تعالى:{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}[البينة الآية: 6].

فهذه الآية كالتي قبلها بيَّنت كفرَ أهل الكتاب، فهم في الكفر مثلُ المشركين بالله، ولفظة (مِن) في قوله تعالى: (من أهل الكتاب) ليست تبعيضية، وإنما هي بيانية، ومعنى ذلك أن أهل الكتاب كلهم ممن لم يؤمن بالنبي r بعد بعثته كفار كما أن المشركين كلهم كفار لأن لفظة المشركين معطوفة على أهل الكتاب، و المعطوف يشترك في الحكم مع المعطوف عليه، ولو كانت لفظة (مِن) تبعيضية للزم منه أن يكون بعضُ المشركين كفاراً، والبعض الآخر غير كفار، ولا قائل به.

والآية الأخيرة تزيد على التي قبلها أنها أفادت أن أهل الكتاب ليسوا بكفار فحسب بل هم والمشركون هم شر الخليقة لأنهم أنكروا دعوة النبي r مع علمهم اليقيني بأنه رسول الله حقاً، فكانت الحجة في حقهم أبين.

يتبع

([1] )  مراتب الإجماع (ص: 167).

([2]) تفسير ابن كثير (3/ 128)

([3] ) تفسير المنار (8/ 354).

 

رابط التحميل من هنا