المقال الثالث: في كفر أهل الكتاب من اليهود والنصاري

كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ممن لم يؤمن بالنبي محمد 

المقال الثالث:    في كفر أهل الكتاب من اليهود والنصاري

بقلم الدكتور/ عمر إيمان أبوبكر

 

الدليل السادس على كفرهم: إشراكهم بالله في عبادتهم

إن أهل الكتاب من اليهود والنصارى فكما أنهم كفارٌ كفرَ إنكارٍ وجحدٍ  فهم كذلك كفارٌ كفرَ إشراكٍ، فهم لهذا كفار بأكثر من جهة، وهذا ما يجعل كفرَهم بالله أعظمُ من كفر أيِّ أمة من الأمم، قال الفخر الرازي: «إنهم (أي أهل الكتاب) كانوا علماء بالكتب، فكانت قدرتهم على معرفة صدق محمد أتم، فكان إصرارهم على الكفر أقبح»([1]).  فكما أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان بفعل الطاعات، فكذلك الكفار يتفاوتون في الكفر بكثرة المعاصي، فمَن كان منهم أشدَّ كفراً بالله يكون أشدَّ عذاباً من غيره، فالنار دركات كما أن الجنة درجات.

ومن الأدلة الدالة على أن أهل الكتاب مشركون قوله تعالى:{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون . اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }[التوبة الآية: 30].

ففي الآيتين السابقتين أكثر من دليل على أن اليهود والنصارى مشركون وكفار أيضا في آن واحد، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: نسبتهم الابن إلى الله، فقول اليهود: (عُزير ابن الله) وقول النصارى: (المسيح ابن الله) كفر صريح، ولهذا قال الله في حق النصارى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم }[المائدة الآية: ]. فالحكم على أحد الفريقين بالكفر بسبب نسبتهم الابن إليه حكمٌ على الفريق الآخر المسكوت عنه، وهم اليهود لاشتراكهم معهم في علة الكفر، فالشريعة لا تفرق بين متماثلين كما أنها لا تجمع بين مناقضين.

ونسبة الولد إلى الله من أقبح أنواع الكفر إن لم يكن أقبحها لإساءتهم إلى الذات الإلهية. {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا . أن دعوا للرحمن ولداً . وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً}[ مريم الآية: 92].

الوجه الثاني: أن الله شبَّههم في الكفر بالمشركين الذين سبقوهم إلى هذا القول من نسبة الولد إلى الله، وذلك في قوله تعالى عنهم: (ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبلُ) وهذا المقطع من الآية يبين أيضاً أنهم كفار بنوع آخر من الكُفر، فقولُهم في أن لله ابناً كفرٌ يشبه قول المشركين القائلين بأن الملائكةَ بناتُ الله، فالمشبه والمشبه به متساوان في الكفر في هذه الناحية.

الوجه الثالث: اتخاذهم أرباباً من دون الله، وذلك فيما حكى الله عنهم في بداية الآية الثانية:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}.

فهذا النص أيضا صريح في أنهم اتخذوا غير الله رباً يتقربون إليه بالطاعات، فاتخذَ اليهود علماءهم أرباباً من دون الله كما أن النصارى اتخذوا عُبَّادهم أرباباً من دون الله، فتابعوهم على تحليل ما حرَّم الله عليهم، وتحريم ما أحلَّ الله لهم مع علمهم بذلك مطيعين لهم في ذلك.

روى الإمام أحمد، والترمذي أن عدي بن حاتم t دخل على رسول الله r وفي عنق عَدِيٍّ صليبٌ من فضة، فقرأ رسول الله r هذه الآية:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} قال: فقلت:إنهم لم يعبدوهم.فقال: بلى،إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلُّوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.

قال ابن تيمية:«وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: أحدهما أن يعلموا أنهم بدَّلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنه خالفوا دين الرسول، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يُصلُّون لهم، ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مُشرِكاً مثل هؤلاء»([2]).

الوجه الرابع على كفرهم في الآيتين أن الله وصفهم في ختام الآية الثانية بأنهم مشركون، وذلك في قوله تعالى: (سبحانه عما يشركون).

فهذا النص صريح في أن كلاً من اليهود والنصارى مشركون، وذلك أنهم عبدوا مع الله غيره كعُزير في شأن اليهود، والمسيح في شأن النصارى، فهم كفارٌ كفرَ إشراك كما أنهم كفارٌ كفرَ إنكار وجحود، ولو أنهم عبدوا عزيراً وحده، أو المسيح وحده ولم يعبدوا الله معهما لصاروا بذلك وثنيين، ولكنهم عبدوا الاثنين معاً، فصاروا بذلك مشركين.

 الدليل السادس على كفرهم: دعوتهم الناس إلى الكفر بالله وحرصهم على إخراج المسلمين من إسلامهم.

يعرف كل من اليهود والنصارى قبل غيرهم أنهم كفار، ولهذا فهم يريدون أن يجعلوا المسلمين كفاراً مثلهم قال تعالى:{ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء} [ النساء الآية: 39].

ولتحقيق أمنيتهم في المسلمين يحرص كلٌّ من اليهود والنصارى على إخراج المسلمين من إسلامهم، وهو أشد أنوع الكفر قبحاً، لأن امتناع اليهود أو النصارى من دخول الإسلام بعد قيام الحجة عليهم كفر لذاته، وصدُّهم الناس من دخول الإسلام كفرٌ ثانٍ، وسعيُهم جاهدين إلى إخراج المسلمين من الإسلام كفرٌ ثالثٌ.

فأما صدُّهم الناس عن الدخول في الإسلام، فذاك صريحُ قولِ الله تعالى:{قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون}[آل عمران الآية: 99].

 معنى الآية: «قل يا أيها الرسول لليهود والنصارى لم تمنعون من الإسلام من يريد الدخول فيه، تطلبون له زيغاً وميلاً عن القصد، والاستقامة، وأنتم تعلمون أن ما جئتَ به هو الحق، وما الله بغافل عما تعملون، وسوف يجازيكم على ذلك»([3]).

وأما حرصهم على إخراج المسلمين من الإسلام، فأمر معلوم منهم، وقد سلكوا كلَّ السبل الممكنة في إخراج المسلمين في الكفر{ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق}[البقرة الآية: 109].

ومن أخبث أساليبهم في محاولة إخراج المسلمين من الإسلام ما فعلته طائفةٌ ماكرةٌ منهم قرَّرت أن تدخل في الإسلام صباحاً، ثم تخرج منه مساء لقصد التشويش على المسلمين حديثي العهد بالإسلام، يقول تعالى:{وقالت طائفة من أهل الكتاب آمِنوا بالذي أنزل على الذين آمَنوا وجهَ النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} [آل عمران الآية: 72].

 لو لم يكن الله قد أحاط المسلمين بهذه الخديعة علماً قبل وقوعها لحصلت بها فتنةٌ لكثير من قريبي العهد بالإسلام، ذلك أن تلك الطائفة عزمت على أن تتظاهر بالإسلام في أول النهار إلى منتصفه حتى إذا اطمأن بهم المسلمون خرجوا منه في آخر النهار ليُوهموا ضِعاف الإيمان أنهم بذلك اكتشفوا في الإسلام سرَّ بطلانِه زاعمين أنه هو الذي حملهم على الخروج منه فوراً، وقصدُهم من تلك الفعلةِ الشنيعةِ أن يتابعهم على خروجهم من الإسلام بعضُ المسلمين ممن لم يتمكن الإسلام من قلوبهم بعد.

فأهل الكتاب في الوقت الذي لم يقبلوا الإسلام ديناً مع قيام الأدلة على صحته عندهم لم يتركوا غيرَهم ينعمون به، فهم يريدون أن يَحرِموا غيرهم منه كما حرموا أنفسهم منه، وقد صدق الله إذ يقول فيهم: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[ البقرة الآية:105].

الدليل السابع على كفرهم: خلودهم (أي اليهود والنصارى) في النار.

 قد سبق([4]) في اليهود والمشركين أن ذكرنا قولً الله تعالى فيهم:{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}[ البينة الآية: 6].

فهذه الآية صريحة في أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ممن لم يؤمن بالنبي r بعد بعثته مخلدون في النار لأن الله قرنهما في الحكم بالمشركين، والمشرك مخلد في النار بإجماع المسلمين لقوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [ النساء الآية:48].

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة t قال: «لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أُرسِلتُ به إلا كان من أصحاب النار)([5]).

قال النووي: «ففيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا r … وقوله r لا يسمع بي أحد من هذه الأمة أي مَن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليهم الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً، فغيرهم ممن لا كتاب له أولى. والله أعلم».([6]).

ولا ينفعهم في ذلك اليوم ما كانوا يدَّعونه في الدنيا من أنهم كانوا على دين، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم قبل غيرهم أنهم كفار لجحدهم بنبوة النبي r مع معرفتهم به حق المعرفة، فهم ممن أضلهم الله على علم، وقلنا غير مرة: إن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كفار أكثر من وجه، بل هم أشد كفراً من بقية أصناف الكفار لما اجتمع فيهم من الجحد والإنكار، والشرك، والتحريف، والتبديل، والكتمان للحق، ومنع الناس من دخول الإسلام، ومحاولة إخراج المسلمين من إسلامهم، وغير ذلك من أنواع الكفر.

وأهل الكتاب من اليهود والنصارى يعترفون أمام الله في يوم القيامة بأنهم كانوا في الدنيا يعبدون عُزيراً، والمسيح ابن مريم ظناً منهم أنهم في ذلك كانوا على صواب، وأن ذلك ينجيهم اليوم من عذاب الله حتى ولو أدركوا أنهم كانوا على كفر في عبادتهم لهؤلاء لا يستطيعون إنكار ما كانوا يفعلونه في الدنيا لأنهم في يوم تبلى فيه السرائر، فتبوحُ كل نفس بما أسلفت (ولا يكتمون الله حديثاً).

وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النبي r «… إذا كان يوم القيام أذَّن مؤذن، تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله، برٌّ أو فاجرٌ، وغُبَّراتُ([7]) أهل الكتاب، فيُدعى اليهود، فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فما تبغون؟ فقالوا: عطشنا ربَّنا، فاسقنا، فيشار، ألا تردون، فيُحشرون إلى النار كأنها سراب يُحطِّم بعضُها بعضاً، فيتساقطون في النار، ثم يُدعى النصارى، فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ما ذا تبغون؟ فكذلك مثل الأول حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر، أو فاجر، أتاهم ربُّ العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها، فيقال لهم: ما ذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: فارقْنا الناسَ في الدنيا على أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثا » ([8]).

قال ابن حجر: «وكان اليهود وكذا النصارى ممن كان لا يعبد الصلبان لما كانوا يدَّعون أنهم يعبدون الله تعالى تأخروا مع المسلمين، فلما حُقِّقوا على عبادة مَن ذُكر من الأنبياء أُلحِقوا بأصحاب الأوثان، ويؤيده قولُه تعالى: «إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهم خالدين فيها الآية([9]).

الدليل الثامن: إجماع المسلمين على كفر اليهود والنصارى

فمن أقوى الأدلة على كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ممن بلغتهم دعوة الرسول، ولم يؤمنوا به أن المسلمين قديماً وحديثاً أجمعوا على أنهم كفار ومخلدون في النار، فهذه المسألة عند السلف الصالح والقرون التي تلتهم كانت معلومة من الدين بالضرورة، بل كانوا يرون أنهم هم العقبة الكأداء في نشر الإسلام وهديه بين الأمم، فلا هم آمنوا به إذ عرفوا أنه هو الدين الحق الذي جاء به الرسول من عند الله، ولا هم تركوا الدعوة تشق طريقها بين الأمم، وقد أشرنا فيما سبق أن كفرهم أشد من كفر الأمم الأخرى لأنهم كفروا مع معرفتهم بالنبي r حق المعرفة.

قال ابن حزم في مراتب الإجماع: «اتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارا»([10]). وقال القاضي عياض المالكي: «نُكفِّرُ من لم يكفر مَن دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقفَ فيهم، أوشك، أو صحَّح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده»([11]).

وقال ابن تيمية الحنبلي: «قد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن مَن بلغته رسالة النبي r فلم يؤمن به، فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة، وأعلام النبوة»([12]).

وقال الزركشي الشافعي: «الإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من اليهود والنصارى وكل من فارق دين المسلمين ووقف في تكفيرهم، أوشكَّ لقيام النص، والإجماع على كفرهم»([13]).

تقسيم الشعوب المسلمة تجاه أهل الكتاب

يمكن تقسيم المسلمين في هذه العصور المتأخرة تجاه أهل الكتاب إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: وهم عامة المسلمين والسواد الأعظم من الأمة عبر العصور يعلمون أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ممن لم يؤمن بالرسول r بعد بعثته كفار لا يشكون في كفرهم، وكان هذا معلوماً من الدين بالضرورة عند المسلمين، ولو كان المسلمون في هذا العصر على ما كان عليه أوائلهم تجاه أهل الكتاب لكان النظر في كفر أهل الكتاب ممن لم يؤمن بالنبي r بعد بعثته عبثاً، ولكن بسبب انتشار الجهل في المسلمين في هذا العصر حتى صار السمة الغالبة فيهم انطمست عند كثيرٍ منهم معالم دينهم فيما يتعلق بالولاء والبراء، فلا يميزون في هذا الباب بين من يجب موالاته، ومن يجب معاداته لأن الدين في مفهومهم محصور في الشعائر التعبدية مقروناً بالانتماءات العاطفية حتى وُجد فيهم من يشكك في كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى على ما سنذكره في بقية الأقسام.

القسم الثاني: المغرورون بالحضارة الغربية والمنخدعون بها، ينظرون إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى نظرة إجلال واحترام لأجل ما وصلوا إليه من التقدم المادي، فيتوددون إليهم بإزالة الحواجز بيننا وبينهم قائلين: لا بد لنا نحن كمسلمين مِن تَقبُّل الآخرين، والتسامح معهم، فحتى يتحقق ذلك على أرض الواقع، فلابد من احترام الطرف الآخر، وعدم التدخل في شؤون الغير، فلا نحكم عليه بالخطأ، أوالصواب مهما خالفنا في المعتقد، فكل إنسان هو حرٌّ فيما يعتقده، ويؤمنُ به، وعلينا أن نحترم اختياراته، فلا نُقيِّمه بسبب معتقده بل بما يتصف به الشخص من الخصال الحسنة، والصفات الإنسانية، وليس بين المختلفين من المسلمين واليهود والنصارى من يملك الحقيقة المطلقة، وإذا كان الأمر كذلك، فليتمسك كل إنسان بما يعتقده صواباً في هذه الدنيا، فإذا جاء يوم القيامة عُلم المخطئ من المصيب، فيجازي الله المصيب على صوابه، ويعاقب الضال على ضلالته.

فهذا الصنف من الناس يتصرفون وكأن الموضوع برمته متروكٌ لاجتهادات الناس، فهم يجهلون، أو يتجاهلون كل النصوص التي تُقسِّم الناس على أساس العقيدة، ولكونهم لا يُعيرون للنصوص الشرعية اهتماماً يحكمون على الناس من منطلق عقلهم الملوَّث بثقافة الإلحاد، فهذا الذي ذكروه من حرية الاعتقاد وعدم معرفة الدين الصحيح من غيره، هو في الحقيقة إنكار وجحد لكل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من تقسيم الناس إلى مسلمين وكفار، وأنهم ليسوا سواء عند الله، لا في حكم الدنيا، ولا في حكم الآخرة قال تعالى:{أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون}[سورة “ن”: 35/36] وقال تعالى:{هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}[ التغابن 2].

 فالله تبارك وتعالى ما أرسل الرسل، ولا أنزل الكتب إلا لبيان الهدى من الضلال، والحق من الباطل، فلا يصح لإنسان أن يزعم بعد ذلك أنه لا يعرف من الناس مَن هو على الصواب في هذه الدنيا من غيره، ونقول لمن أراد أن ينتقل من الإسلام إلى دين اليهود والنصارى ليكون مرضياً عندهم، ويحظى باحترامهم، فليفعل ذلك في خاصة نفسه دون أن يركب الشطط في تمييع ثوابت الإسلام ومبادئه، فالوضع الدولي القائم هو يحمي هؤلاء من تبعات تصرفاتهم تلك إذ لا رادع لهم عن ذلك في هذا العصر بعد رفع الشريعة الإسلامية، وإحلال القوانين الوضعية محلها ليفعل كل شخص ما يهواه من الارتداد دون الخوف من تبعات ذلك.

القسم الثالث: بعض المثقفين الذين ليس لهم بصيرة بالعلم الشرعي، فجلُّ معارفهم مستمدة من المجلات والصحف، والإعلام المرئي، والمسموع، ولما فيها من خلط الغث بالسمين، والسم بالعسل يعتقدون أن أهل الكتاب ليسوا كفاراً محضاً كما أنهم ليسوا بالمسلمين الخلص، ولكنهم بين هؤلاء وأولئك، وشبهتهم في ذلك أنهم يسمعون أن الله يناديهم دائماً في كتابه الكريم بقوله: (يا أهل الكتاب) وذاك راجع في نظرهم إلى ما عندهم من الدين.

وهذه النظرة من هؤلاء المثقفين المسلمين مرحَّب بها عند أهل الكتاب كمرحلة أولى، لما فيها من تحسين صورتهم في نظر بقية المسلمين لأن المثقفين هم لسان الأمة، وتلك في نظر أهل الكتاب خطوة في الاتجاه الصحيح لما فيها من  التقريب بين الفريقين من باب: (ودوا لوتدهن فيدهنون) على أمل أن تتبعها خطوات أخرى من التنازل مما ينتهي بهذا الفريق في النهاية إلى تسوية المسلمين بأهل الكتاب في الولاء والبراء، وهذا هو الهدف الأسمى عند أهل الكتاب، ولا يدري هؤلاء المساكين أن تلك النظرة هي انسلاخ من الدين كله{ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء }[ النساء الآية: 39].

الرد على  هذا الفريق المنهزم نفسيا

أما ما ذكروه من وصف الله لهم بأهل الكتاب، فلا يصنع لهم شيئاً غير تذكيرهم بما يجب عليهم تجاه النبي r من وجوب الإيمان به، لأنهم أولى الناس باستجابة دعوته لأنهم يعرفونه حق المعرفة من خلال كتبهم التي أنزلها الله عليهم {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون }[ البقرة الآية: 146]. فالله في الوقت الذي يناديهم بأهل الكتاب يقرنه في كثير من المرات بكفرهم بالله إذا لم يؤمنوا بالنبي r، فيقول جلَّ في علاه: {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون . يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} [ آل عمران الآية:70/ 71].

فالرد على هذا الفريق من المثقفين المتعالمين كالرد على الفريق الذي قبله إذ  ليس في ميزان الله إلا مسلم وكافر، فليس في يوم القيامة منزلة بين منزلتين.

القسم الرابع: بعض عوام المسلمين الذين لا هم لهم في دين، ولا في مستقبل أمة، بل همهم الأكبر ينحصر في تحصيل لقمة العيش، فيعتقد بعض هؤلاء في أهل الكتاب أنهم على دين صحيح كما أن لنا ديناً صحيحاً، ومستندهم في ذلك انطباعاتهم الشخصية عن أهل الكتاب، وليس لهم من وراء ذلك علمٌ، ولا معرفةٌ غير ما يسمعون من وسائل الإعلام المختلفة، فيقولون هم أتباع موسى وعيسى عليهما السلام كما أننا نحن أيضاً أتباع محمد، وأن هذه الأديان الثلاثة: هي الأديان السماوية، وكلها متساوية، ومن أراد أن يعبد الله بواحدة منها، فله ذلك.

 بل قد يوجد من بين هؤلاء العوام من يعتقد أن أهل الكتاب أحسن منا ديناً لحسن تصريفهم لشؤون دنياهم مما قادهم إلى تقدمهم المادي علينا، وذلك كلُّه في نظر هؤلاء العوام دليل على أن الله راضٍ عنهم في معتقدهم، فهم قدوتهم في كل شيء ينظرون إلى الأشياء بأعينهم، ويقيمونها بمعاييرهم، فالخير ما جاء من عندهم، والشر ما حذروه منه، ولهذا وذاك صارت أمنية كثير من الشعوب المسلمة أن يكونوا معهم في بلادهم مهما كلفهم ذلك من المخاطرة بدينهم ودنياهم، فلو أن الدول الغربية ـ لا سمح الله ـ اشترطت على كل من يدخل إلى بلادها من المسلمين أن يتنصروا لتنصر كثير من المسلمين نعوذ بالله من  الحور بعد الكور.

والشعوب المسلمة لهم في ذلك بعض العذر لأجل ما تعانيه في أوطانها من التخلف، والفقر، والظلم، والاستبداد إلى حد لا يطاق، فهي تريد الخروج من هذا الوضع المتأزم غير آبهة مما قد يترتب عليه من تبعات أليمة في دينها، فتسلك كلَّ تلك المخاطر، وإن أدَّت بها إلى هلاكها في عُرض البحر، حملهم على ذلك اليأس من الحياة في بلادها بأمن وأمان، ولكننا نسأل، فنقول: من هو الذي أوصل الشعوب المسلمة إلى هذا الوضع المتأزم من الحضيض.

 فالجواب باختصار هو الاحتلال الذي جثَم على صدور الشعوب المسلمة لأكثر من قرن، ثم لما خرج من البلاد نصب على الشعوب المسلمة تلاميذه رؤساءً عليها، فصنعوا بشعوبهم ما لم يصنع بها المحتل، فازداد الوضع بهم سوءاً لأن الزمرة الحاكمة طبقت على الشعوب كل ما أملى عليها المحتل السابق من فصل الدين عن الدولة تنفيذاً لتوصيات المحتل من أنكم لن تتقدموا حتى تفعلوا بإسلامكم ما فعلنا نحن بكنائسنا.

 والشعوب مع كل هذا لم تحصل على شيء مما وُعدت به من رغد العيش والحياة بكرامة مقابل التخلي عن تطبيق الشريعة، بل وجَدتْ نفسها تنتقل كل يوم من سيِّءٍ إلى أسوأ منه، ولهذا يحق لنا أن نقول: للعلمانيين قد أوصلتم الشعوب إلى طريق مسدود، فلا أنتم حفظتم لها ديناً، ولا أنتم بنيتم لها مجداً، فعليكم أن تُعلنوا على الملأ بفشل مشروعكم المستورد، ثم تنسحبوا من الساحة إن كانت لكم الشجاعة الكافية، لأننا “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”. فلاعزة لنا بغير دين الله. {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}[ النساء الآية: 139].

وفي الختام نسأل الله تعالى أن يرفع راية الإسلام على كل الرايات، وأن يُبصِّرَ الشعوب المسلمة بأمور دينها، وأن يعيدها إليه عوداً حميداً، وأن يجنبها كيد الأعداء ومؤامراتهم حتى تعبد الله حق عبادته إنك أنت يارب نعم المولى ونعم النصير، بهذا انتهت المقالات في كفر أهل الكتاب.

 وتليها المقالات في الشيعة الإمامية الإسماعلية بين اليوم والأمس.

([1])تفسير الفخر الرازى (ص: 4804

([2]) مجموعة الفتاوى (7/ 70).

([3] )  التفسير الميسر لمجموعة من العلماء بإشراف الدكتور عبد الله التركي..

([4] ) في الدليل الرابع

([5] ) صحيح مسلم برقم ( 240).

([6] )  شرح مسلم للنووي (2/ 188).

([7] ) أي بقايا من أهل الكتاب.

([8]) صحيح البخاري برقم 1581

([9])  فتح الباري (11/ 449).

([10])مراتب الإجماع ص 119).

([11]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 286) ونقله عنه النووي في روضة الطالبين (10/ 70).

([12]) الفتاوى (12/ 496). ،

([13]) البحر المحيط ( 4/525).

 

لتحميل الرابط اضغط هنا